الاثنين، 7 مارس 2005

ناصر والوحدة العربية ، م. فتحي شهاب


كان لابد للزعيم من مغامر جديدة يصرب بها أنظار الناس عن هزيمته في 56 وما حصلت عليه إسرائيل من مكاسب، وكان لابد أيضًا من التنفيس عن البخار المكتوم في صدور الشعب أو على حدي تعبير مايلز كوبلاند "التنفيس  العاطفي Emotional outlet"
وكانت الظروف مواتية .. فقد شهد عام 1956، توطدا زائدًا في العلاقات السورية الروسية إلى الحد الي بات معه رتق الصدع في الجبهة الوحدة تجاه السوفيت أمرًا غير بسيط، وأصبح "نوري السعيد" في العراق في موقف صعب ومكشوف، وكان الملك حسين يتظاهربالالتحاق بركب عبد الناصر –خوفًا وطمعًا- دون أن يشعر بالارتياح أو الاستقرار، وكانت الأوضاع في لبنان على وشك الانفجار، يقول كويلاند: وفطن عبد الناصر إلى قواعد اللعبة فوجد فيها البلسم الشافي، ولجأ إلى التشاور مع أصدقائه الأمريكيين واستنفرهم للتعاون معه بغية سد الثغرة التي ظهرت في "جبهته ضد الشرق" في الوقت الذي كان يتشاور فيه مع السوفيت عن مشكلة سد الثغرة في "جبهته الغربية" التي أصبحت كثيرة الثقوب، وأرسل رئيس المخابرات المركزية الأمريكية إلى جمال عبد الناصر بخبره أن الولايات المتحدة لا تخطط لشيء بالنسبة لسوريا وأنه من الأفضل له أن يهتم بالنشاط التخريبي السوفيتي هناك وأكد أصدقاء عبد الناصر الأمريكيون أنه بسبب تجارب سابقة أحرقت الأصابع الأمريكية في سوريا للأمريكيون أية نية للتدخل في شئون ذلك البلد، وهذكا فإن فكرة عقد صفقة مع عبد الناصر بشأن سوريا كانت مغرية لكل من الأمريكان وعبد الناصر على حد سواء وكانت الصفقة هي الوحدة.
وحدة مصر وسوريا تحت اسم الجمهورية العربية المتحدة، فعلى مستوى الجيش استطاع عبد الناصر إيصال رجله "عبد الحميد السراج" إلى ظيفة رئيس المكتب الثاني" في الجيش السوري –المخابرات- وقا السراج بدوره بجمع مجموع من الضباط حوله أطلق عليهم "الوحدويين" أو "الناصرييين" وزعهم على جميع أنواع القوات المسلحة السورية، وعلى المستوى الحكومي والنيابي حدث التقارب مع حكومي "سعيد الغزي" و"صبري العسلي" المتعاقبتين اللتين مهدتا للوحدة منذ أوائل عام 1957.
واتخذ البرلمان السوري قرار الموافقة .. وأعلن قيام الجمهورية العربية المتحدة عام 22 فبراير عام 1958 برئاسة جمال عبد الناصر، وكان "حزب البعث" –الذي أصبح أحد زعمائه "أكرم الحوراني" نائبًا لرئيس –هو الذي أعطى ما سمى "الزخم العقائدي" لدولة الوحدة..!! والمعروف أن حزب البعث هو حزب علماني لا ديني يكن  عداء صريحا للإسلام، ومع ذلك رحبت الجماهير العربية بدولة الوحدة دون أن يغيب عن بالها التناقض بين "شمول" الإسلام كدين يجمع العرب وبين "محدودية" القومية كولاء علماني، ومن ثم فهم ليسوا في حاجة إلى تلامذة المبشرين وصبية اليهود أمثال "ميشيل عقلق" ليفلسفوا لهم وجودهم القومي.
وبناء على سياسة توزيع الأدوار في "أمن الشرق الأوسط" وحماية الوجود الصهيوني تميزت الفترة من عام 1956 إلى عام 1962 باتفاق روسيا وأمريكا على سياسة متوازنة في المنطقة بين النفوذ الأمريكي وتسريب الفكر الشيوعي كانت أمريكا تهدف إلى تهيئة الأجواء في العالم العربي من خلال جمال عبد الناصر لدخول الشيوعية فكر وأيديولوجية لأنظمة الحكم لا أحلافا مضادة للغرب تخرج عن لعبة الحياد الإيجابي وعدم الانحياز!! وكان لإسرائيل مصلحة كبرى في هذا المخطط الشيطاني الرهيب والبعيد الأعماق.
فالشيوعية أقدر من الغرب على محاربة الإسلام وإبعاده عن أداء دوره تجاه إسرائيل حركة وفكرًا وجهادًا، ومع أن إسرائيل قد حوصرت تمامًا بين إقليمي الجمهورية العربية المتحدة (الإقليم السوري) شمالا (والإقليم المصري) جنوبا وبين الجيشين (الأول) شمالا و(الثاني) جنوبا .. إلا أن العلاقات مع زعيم العروبة كانت "سمنا على عسل" ولم يحدث ما يعكر صفوها طوال ثلاث سنوات ونصف هي عمر الوحدة منذ النشأة وحتى الانفصال!! بل لم يفكر "القائد الخالد" حى في استرداد ما فرط فيه هو من أرض مصرية انتزعتها منه إسرائيل!! وراح –بديل-  يصرف الجماهير عن قضيتها الأساسية ويدخل في قلب المعارك اللبنانية من غير نتيجة.
واشتعلت بينه وبين عراق "عبد الكريم قاسم" معارك الدائرة الجهنمية التي لم تؤد إلى إلا استنزاف الموارد وتكريس الثارات وكأنه أمر يراد، وكان "قاسم" قد قام بانقلابه العسكري مدعوما من عناصر بعثية وشيوعية وناصرية ثم انتهى دوره الذي بدأه في عام 24 يوليو 1958 بمصرعه عام 1963، ثم توالت الانقلابات حتى انقلاب البعث العراقي الأخير وانفراد "صدام حسين التكريتي" بحكم العراق" وكان الأمريكان يفضلون "ناصر" على كل حكام  المنطقة سواء أكانوا زعماء انقلابيين أو ملوكا أو رؤساء تقليديين لأن "لناصر" دورًا محددًا في مرحلة أو مراحل معينة!! يقول كويلاند:
"كنا نفضله على قاسم العراق وعلى الملك سعود وحتى على الرئيس اللبناني شهاب وبغض النظر عن المصائب التي كانت تحل به كل ثلاثة أو أربعة أعوام فإن "ناصر" كان يزداد قوة وصمودًا فهو هناك ودائما والتفكير بغيره عبث والعبث حرام".
وبعد منتصف ليلة 26 سبتمبر 1961 خرج حيدر الكزبري" على رأس كتائب من القوات المسلحة السورية واستولى على إذاعة دمشق وأعلنت بيانات تقول بأ الشعب السوري قد تخلص من ديكتاتورية عبدالناصر السوداء، وأشهدت تلك البيانات العالم الحر على خلاص سوريا من نظامه البغيض .. وكان "حيد الكزبري" ذاك أحد مديري مكتب "المشير عبد الحكيم عامر" نائب رئيس الجمهورية والقائد العام للقوات المسلحة والذي كان موجودًا في سوريا أيام ذلك الإنقلاب .. وفي نفس الوقت كان الطيار "موفق عصاصة" يقود سربا من الطائرات حلقت فوق دمشق وهددت بضرب بعض الأهداف بالقنابل إن أعاد عبد الناصر الاستيلاء على سوريا بالقوة، ووقع بعض الساسة السوريين من اتجاهات مختلفة وثيقة الانفصال ومنهم البعثي الشهير "صلاح البيطار"!! وهكذا ضرب أمشل شعبي في مقتل، ليس لأن الجماهير العربية السورية تكره الوحدة، ولكن لأن العلمانيين الملاحدة هم الذين فاوضوا اصلا من أجل هذه الوحدة وأسندت إليهم المناصب القيادية سواء في الوزارة أو الاتحاد القومي في سوريا، يقول السادات: في كتابة البحث عن الذات:
سخط الشعب السوري على عبد الناصر وعلى الوحدة سخطا حقق ثماره عندما صحا الناس في دمشق يوم 26 سبتمبر 1961 على وحدات من الجيش السوري وهي تحاصر القيادة العسكرية وكان عبد الحكيم عامر يعيش في فيلا ملاصقة للقيادة فلما عرف أنباء الحركة أسرع إلى القيادة ولكن الجيش السوري ضيق الحصار عليه، وألقى القبض على عامر وشحنوه في طائرة إلى مصر وتم بذلك الانفصال وذهب الوحدة بين مصر وسوريا كأن لم تكن".
وهكذا أسدل الستار على الوحدة التي لن يغلبها غلاب!! كما كانت تعلن الإذاعة  طول ثلاثة أعوام وهي عمر الوحدة، ومع ذلك سارع "الزعيم الخالد" وأعزى الانفصال إلى "الرجعية العربية" "والإقطاع" و"الرأسمالية" وعلى ذلك فقد تم حل "الاتحاد القومي"  وطلع علينا "الميثاق" الذي صاغه هيكل "مفكر الناصرية الأوحد في ذلك الوقت" ليصبح كتابا مقدسا يتلى في المدارس والجامعات وتصاغ به الحياة على أرض مصر، وأعلن عن قيام "الاتحاد الاشتراكي العربي" كتنظي سياسي يضم ما سمى بـ "تحالف قوى الشعب العامل"، وتميزت الفترة من 1961 – 1967 بتراجع أمريكا خطوة إلى الخلف لتفسح المجال لروسيا حتى يتم تنفيذ المخطط المتفق عليه لصالح إسرائيل، وتطبيقا لهذاالمخطط تحرك عبد الناصر على عدة محاور في وقت واحد لصرف الأمة والشعب المصري بصفة خاصة عن القضية المركزية والخطر الرهيب على الحدود في الشرق والعائق المانع بين شرق البلاد العربية وغربها والفيروس الغريب المزروع في قلبها والمسمى إسرائيل، ففي الداخل كان كل هم النظام الناصري المهزوم تعميق "الحقد الطبقى" بين الشعب وتأجيج "الصراع الحركي" تحت ستار ما مسى "تأصيل الفكر الاشتراكي" مع إشاعة جو من الإرهاب يمكن أن يطلق عليه في تلك الفترة بحق "عصر الرعب" وفي الفترة من نهاية عام 1964 وبداية عام 1965 تم إنشاء "الحزب الطليعي" وهو "كادر سري" داخل الاتحاد الاشتراكي ضم قيادات النظام والكوادر النشطة للشيوعية، وكانت وظيفة هذا "الجهاز السري" كما حددها صانعوه أن يكون عصبا للاتحاد الاشتراكي يتولى توجيهه والاسراع بإنجاز "التطبيق الاشتراكي" وكان الأخطر والأدهى من مهام هذا الجهاز هو متابعة وملاحقة من يشك  في ولائه للاشتراكية في مواقع الانتاج والخدمات والجامعات والمدارس وأجهزة الثقافة والإعلام!
وتركزت تلك السياسة داخليًا وخارجيًا، تربويا وثقافيا وترفيهيا بما في ذلك الأغاني على صنم اسمه "الاشتراكية" التي لم تكن في حقيقة الأمر سوى رأسمالية الدولة أو اشتراكية توزيع الفقر، وطمأن الاتحاد السوفيتي إسرائيل على انصراف نظام عبد الناصر عنها في مرحلة الاحتواء السوفيتي في خطاب ألقاه السفير الروسي في المؤتمر اليهودي العالمي" الذي عقد في إسرائيل وفي المجتمع اليهودي العالمي أن تؤيدوا سياسة الاتحاد السوفيتي في الشرق العربي لأنها سياسة فيها كل النفع والخير لإسرائيل واليهودية العالمية"!!
وفي منتصف مايو 1967 وقبل أيام من الهزيمة النكراء التي سقطت فيها ثلث أراضي مصر في أيدي اليهود –علاوة على القدس وبقية فلسطين والجولان- اجتمع "قادة الفكر الاشتراكي" في مصر من كبار أعضاء "التنظيم الطليعي" والمنظرين العقائدين من شيوعيين وناصريين ووزراء وصحفيين كبار وأستاذة ماركسيين .. اجتمعوا ليناقشوا أخطر قضايا المرحلة وهي تعريف "من هو العامل ومن هو الفلاح"!! وما زلت أذكر ونحن طلبه في كلية الهندسة  جامعة القاهرة كيف قطع عميد الكلية حينئذ (د. العريان) محاضرته ليسأل أحد الطلبة: هل تستطيع أن تعرف من هو العامل ومن هو الفلاح؟!! فقد كان الموضوع يفرض نفسه على كل وسائل الإعلام في هذه الفترة التعيسة. وإذا كان النسا يتندرون منذ قرون بما يسمى "السفسطة البيزنطية" أو الجدل البيزنطي حول أشياء تافهة انشغل بها مفكروهم ورجال دينهم وظلو كذلك حتى ليلة سقوط مدينتهم، فإن ما حدث في مصر لا يستحق التندر فحسب، بل إنه جدير بالدمغ والإدانة والمحاكمة – في الحد الأدنى- لهؤلاء الذين ظلوا "يسفسطون" حتى دهمتهم إسرائيل في عقر دارهم في ليلة غاب شمسها من يوم 5 يونيو عام 1967.

الأحد، 6 مارس 2005

ثورة يوليو .. وصناعة الزعيم ـ م. فتحي شهاب


        قام انقلاب يوليو برفع شعارات الحرية والديمقراطية والعدالة، وفي نفس الوقت قام بسحق الحرية وذبح الديمقراطية، أما العدالة فقد ألحقها بخبر كان، فباسم الثورة سيطر حكم الفرد واستبيح الإنسان المصري في نفسه وشرفه وعرضه، وشهدت البلاد مخابرات دمرت ثقة الإنسان بأخيه وأمه وأبيه وعاثت فى الأرض فساداً يزرى بكل فساد، مما تحققت به مقولة "القائد الخالد جمال عبد الناصر" "ارفع رأسك يا أخى فقد مضى عهد الطغيان" .ثم بدأت خطوات تلميع البطل وصناعة الزعيم وكانت أولى هذه الخطوات التى سيصعد بها نجم الزعيم هى "صفقة الأسلحة التشيكوسلوفاكية". تقدم عبد الناصر بطلب أسلحة من الولايات المتحدة ووافقت واشنطن بادئ الأمر..ثم جمد الطلب لأسباب قيلت أنها إدارية..ثم أعلن عن رفض الأمريكان تزويده بالأسلحة التى وعدهم بأنها لم تستخدم ضد اسرائيل وإنما لأمن النظام وتعزيزه مركز فى الداخل.
        ماذا يفعل الرجل إذن؟
        لابد أن يبحث عن مصدر آخر للسلاح لأن الغرب خذله..وبادرت روسيا بالموافقة على تزويد مصر بالسلاح من خلال تشيكو سلوفاكيا.
        هكذا بدت الصورة الملمعة أمام الناس!!
لكن ما جرى في "الاستوديو" ومن خلف "الكواليس" وما وراء الجدران الصماء – التي لم يدم السر طويلا معها –كان عكس ذلك تمامًا!!.
يقول مايلزكو بلاند رجل الـ C.I.A  في مصر في كتابه (لعبة الأمم): "تلقى كيرميت روزفلت رسالة شخصية من عبد الناصر قال فيها إنه على وشك توقيع إتفاقية مع السوفيت وإنه إذا كان يريد أن يثنيه عن عقد هذه الإتفاقية فهو يرحب به في القاهرة وهكذا اتجهت أنا وروزفلت إلى القاهرة، في صباح اليوم التالي وفي شقة عبد الناصر في الطابق الأعلى من مبنى قيادة الثورة كانت المفاجأة على العكس مما كان يتوقع عبد الناصر، فبدلا من أن يقوم روزفلت باثنائه عن قبول صفقة السلاح السوفيتية قال له:
"إن كانت الصفة فعلا بهذه الضخامة التي سمعنا بها فما عليك إلا القبول بها لأنها وإن أغضبت البعض فستجعل منك عظيما وتكسبك تأييدًا فريدًا، فلماذا يا ناصر لا تستغل هذه الموجة المفاجئة من التأييد الشعبي لتتخذ بعض القرارات التاريخية حقًا؟! إننى على استعداد لأن أقبل مشاركة الإسرائيليين للقيام بمجهود مشترك بغية الوصول إلى سلام دائم في المنطقة إن هم أرادوا فعلا ولم يتمالك ناصر نفسه عند سماع هذا الاقتراح فقد طار به فرحًا وقفز مبتهجًا وقال إنها فكرة رائعة".
        "وتابعنا مناقشة هذه الفكرة حتى منتصف الليل فناصر سيدرج إعلانه عن الأسلحة السوفيتية في بيان ضخم في ختف له لا التقدميون في مصر فحسب بل العناصر المحافظة أيضًا، ثم يتبع ذلك بحملة حياد دولية يرضى بها جميع الأطراف بينما يستمر داخليا في إصلاحاته الاجتماعية والاقتصادية عن طريق المساعدات الأمريكية.
ويستطرد كويلاند: "وأخرج عبد الناصر زجاجة من "السكاتش ويسكي" الذي يحتفظ به عادة للزوار الممتازين، وبينما كان يفعل ذلك رن جرس الهاتف ليقول الضابط في الطابق الأدنى أن "السير همفري تريفليون" السفير البريطاني بموعد مستعجل ..
ولم يستمر اجتماع "ناصر –تريليون" أكثر من خمس دقائق .. وجرت بعد ذلك مراجعة مسودة الخطاب الذي سيقليه في خريجي الطيران، وكنا نتبادل النكات حول ما كان يمكن أن تتحول إليه ملامح السفير البريطاني لو أن روزفلت أو أنا دخلت قاطعًا عليه خلوته مع ناصر وبيدي كأس الويسكي لأقول له: عفوا جمال .. لقد انتهت الصودا فمن أين نحصل على المزيد منها؟!" هذا عن دور الأمريكان في الصفقة!!
أما عن دور الإنجليز فيها فترويه "وثائق الخارجية البريطانية" –تحليل وتعليق سير "انتوني ناتنج" وزير الدولة للشئون الخارجية البريطاني الأسبق حيث يقدم أنتوني ناتنج للموضوع بقوله: "إن عبد الناصر كان يأمل في إمكانية ترتيب صفقة بين مصر وإسرائيل، ودخل من أجل هذا الهدف في اتصالات سرية مع رئيس وزراء إسرائيل "موسى شاريت" وإن عبد الناصر تردد في طلب المساعدة من المعسكر السوفيتي ففي أواخر الأربعينيات كانت روسيا تعارض باستمرار مصر والعرب في القضية الفلسطينية، والواقع أنها صوتت إلى جانت خطة الأمم المتحدة لتقسيم فلسطين وخلق الدولة اليهودية، كما أنها خاضت في حقيقة الأمر سبقًا غير مشرف مع الأمريكيين لتكون أول دولة تعترف بإسرائيل، كما زود المعسكر السوفيتي إسرائيل بالأسلحة التي استخدمتها للانتصار في  الحرب" ويكشف "انتوني ناتينج" السر عن الخطة البريطانية ذات المرتكزات الثلاثة لتشجيع هذه الصفقة قائلا:-
1-    علينا ألا نحاول دخول منافسة مع الكتلة الشرقية في تسليح مصر، وعلينا أن نقبل بكل شرف وكرامة نستطيعها العقود التي توصلت إليها مصر مع تشيكو سلوفاكيا، وإذا كان ممكنا فعلينا إغراء عبد الناصر من أجل تحديدها.
2-    حيث أن إسرائيل تكمن في قلب مشكلة الشرق الأوسط فإنه لا تزال هناك طريقة واحدة مشرفة للخروج من مصاعبنا هناك وهي إيجاد تسوية بين إسرائيل وجيرانهها العرب، ومهما كانت الفرص والإمكانيات  غير مشجعة فإن هذا يجب أن يظل هدفنا الرئيسي والملح.
3-    إن علينا بدلا من أن نحاول منع سانت كلوس (بابا نويل) السوفيتي من تسليم السلع والهدايا لمصر –وهو ما كان السوفيت يصورون أنفسه عليه- فإن علينا أن نسمح لهم بالفرصة لكي يظهروا على حقيقتهم وهي أن وراء ستار الكرم والسخاء يكمن دب شرس باسنان حادة ومخالب قوية".
"وقد وجدت هذه التوصيات تأييدا من وزير الخارجية البريطاني "هارولد ماكميلان" الذي نصح على الفور "أنتوني أيدن" بذلك.
ثم بدأ الإعلام الفاسد دوره في تلميع البطل فتم استدعاء الصحفي اللبناني "سعيد فريحة" ليكتب في صحيفة "الأنوار" وهو يزف للعرب بشارة الزعيم أنه رأي وزير الخارجية الأمريكي "جورج ألسن" "ملطوعًا" في مكتب التشريفاتي "صلاح الشاهد" في انتظار جمال عبد الاصر وأنه -أي ناصر- طرد السفير البريطاني في صفقة الأسلحة، وبالطبع يصفق العرب!!.
ثم يعلن البطل عن سياسته تجاه إسرائيل وتصوره للقضية الفلسطينية في عري صريح وذلك في حديث أدلى به إلى مجلة "نيوزويك" الأمريكية عام 1955 أعلن فيه أنه يرغب في السلام أي الصلح وأن المشكلة الفلسطينية تنحصر في "تدويل القدس" وتعويض اللاجئين، ونسي الزعيم وهو رجل عسكري أنه شتان بين اتفاقيات الصلح واتفاقيات الهدنه فيما يختص باستقرار الأمور لأنها خطوط مؤقتة وليست حدودًا للدول المعنية، وكان من الضروري على حد تعبير "الفريق صلاح الدين الحديدي" أن يكون الحل الدائم" بجولة عسكرية ثانية تتحدد بنتيجتها الأوضاع النهائية في المنطقة بأسرها" وكان الرد العملي لإسرائيل هو اجتياح سيناء في أكتوبر 1956، ورغم أن بريطانيا وفرنسا قد خرجتا من "المولد بلا حمص" فإن إسرائيل قد خرجت من حرب 56 وجيوبها ممتلئة بالهداية الآتية:
1-    نزلت قوات الطوارئ الدولية إلى مصر وقبلت الحكومة وجودها بينما رفضت إسرائيل ذلك وطالبت هذه القوات بعدم وجود أية قوات مصرية لمسافة عشرة كيلو مترات من الحدود ووافقت مصر.
2-    استولت إسرائيل على منطقة شرم الشيخ وظهرت "إيلات" كميناء بحري اعتمدت عليه إسرائيل في ربطها بالبحر الأحمر وبدول آسيا وأفريقيا.
3-            حرية الملاحة لإسرائيل في خليج العقبة.
وهكذا وبعد فضيحة الهزيمة واستقرار الأوضاع مع إسرائيل والتسليم المشبوه بما وضعت يدها عليه من أرض جديدة ومنافذ بحرية كان لابد من مغامرة جديدة يصرف بها الزعيم الجماهير عن التفكير في موضوع إسرائيل بعد ست سنوات من وجود النظام الذي زعم أصلا أنه جاء أو على الأقل ما جاء من أجله للانتقام مما حدث في حرب فلسطين عام 1948.فماذا يا ترى يفعل الزعيم؟!

السبت، 5 مارس 2005

ثورة يوليو .. ولعبة الأمم ـ م. فتحي شهاب



انتهت الحرب العالمية الثانية عام 1945م وأصبح الغرب الأوروبي ضعيفا من الوجهة الاقتصادية والعسكرية، وشاخت بريطانيا وفرنسا وصارتا أقل مقدرة على تدعيم الامبراطوريات، وأمسكت الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي بدفة العالم.
في 21 فبراير 1947 قدمت السفارة البريطانية في واشنطن مذكرة إلى وزارة الخارجية الأمريكية تعلن فيها نهاية الوصاية البريطانية في الشرق الأوسط، في نفس اليوم  الذي كان فيه وزير الخارجية الأمريكي "جورج مارشال" يلقى أمام حشد من الشباب الأمريكي في "برنستون" خطة أوضح فيها "الدور الذي أصبح على الولايات المتحدة أن تلعبه في العالم بعد أن تغلغلت في كل أركانه جغرافيا وماليا وعسكريا وعلميا، ودعا الأمريكيين حيال وضع كهذا أن يرتفعوا إلى مستؤلياتهم لضمان أمن وسلامة العالم".
ووضعت في واشنطن قواعد "لعبة الأمم" وأشارت مذكرات الحكومة الأمريكية عام 1947 بوضوح وتأكيد إلى أن أجهزة المخابرات والسلك الدبلوماسي كانتا على وشك القيام بتغييرات في قيادة بعض دول الشرق الأوسط باللجوء إلى تغيير أولئك الذين يشكلون حجرة عثرة في طريق السياسة الأمريكية واستبدالهم بآخرين أكثر انسجامًا مع الظروف، يقول مايلز كويلاند، صاحب كتاب "لعبة الأمم" وعلى هذا الأساس استعار "دين انشيسون" –وزير الخارجية- كيرميت روزفلت" في عام 1951 من المخابرات الأمريكية ليرأس لجنة من المختصين، كما استعار آخرين من وزارتي الدفاع والخارجية، وجلبت آخرين كمستشارين من قطاعي الأعمال التجارية والجامعات، وكانت مهمة هذه اللجنة دراسة العالم العربي وبصورة خاصة "النزاع العربي الإسرائيلي".
في أوائل عام 1952 أنهت اللجنة تقريرًا حول "لعبة الأمم" في الشرق الأوسط فحواه أن أمريكا في حاجة إلى قائد عربي تتجمع بين يديه سلطات تفوق كل ما تيسر لأي زعيم عربي آخر من قبل .. سلطات تمكنه من اتخاذ قرار سواء رضي به الشعب أم لا .. والرجل الوحيد الذي يستطيع الحصول على مثل هذه السلطة هو الشخص الذي يتطلع إليها بشوق.
الجيش وحده يستطيع
في مايو 1952 وافق "كيرميت روزفلت" على رأي "جيفرسون كافري" السفير الأمريكي في القاهرة على أن الجيش المصري وحده هو الذي يستطيع مواجهة الموقف المتدهور في مصر وإقامة حكم تستطيع الدول الغربية أن تتعامل معه في حدود المنطق والمعقول.
وقد تم الاتفاق على أن العلاقات المقبلة  بين الحكومة المصرية الجديدة التي ستتألف بعد الإنقلاب والحكومة الأمريكية يجب أن تقوم على أساس شعارات للإعلان فقط، تقول بوجودب عودة الحكم الديمقراطي إلى مصر، على أن يكون مفهومًا بصورة ضمنية وسرية أن الشروط اللازمة لذلك الحكم الديمقراطي لم تتوفر بعد، وهي لن تتوفر لسنين قادمة .. وفي كل الأحاديث التي دارت بين الضباط الأحرار وكيرميت روزفلت –عميل المخابرات الأمريكية- قبل شهرين من انقلاب عام 1952 كان موضوع السخط على بريطانيا هو الموضوع الوحيد الذي دار حوله البحث، وعاد كيرميت روزفلت إلى واشنطن قبل شهرين من الانقلاب وقدم إلى وزير الخارجية الأمريكية "دين انيشيسون" تقريرًا وردت فيه النقاط الآتية:
1-    لم يعد هناك أي احتمال يحول دون وقوع ما يرجون المخططون في وزارة الخارجية وأن الجيش سيقوم بانقلابه القريب.
2-    إن الضباط الذين يرجح أن يقودوا الانقلاب ستكون لهم مبرراتهم القوية، وسيزيد ذلك من حظهم في النجاح وسيجعل منهم مفاوضين مرنين عندما يحتلون مراكز السلطة.
3-    على الحكومة الأمريكية أن تحجم بعد الإنقلاب عن محاولة إقناع العسكريين بإجراء انتخابات أو إقامة حكومة دستورية.
4-    بالنسبة للحاجة إلى عدو  يجتمع على كراهيته الجميع (وفقًا لمبدأ برتراند راسل) فلن يكون هذا العدو إسرائيل .. بل الطبقة الأولى داخل مصر، وكذلك الإنجليز. يقول كويلاند: وقام الانقلاب ليلة 23 يوليو 1952، وإذا كانت السفارة الأمريكية في القاهر لم تطلع على أخباره في حينها فلا يعود ذلك إلى تقصير من "جمال عبد الناصر" –بطل اللعبة- بل إن السفارة كانت مغلقة في الليل "غير أن "علي صبري" –مدير مكتب عبد الناصر ورئيس وزارته وأمين اتحاده الاشتراكي ونائبه على تسلسل وظائفه –قدم إلى السفير كافري تقريرًا شاملا عما حدث قبل ليلة واحدة من الانقلاب، مع تأكيدات بأن الحكومة الجديدة ترغب في علاقات ودية في الولايات  المتحدة ..!! هذا من ناحية الشكل الرسمي أي "السفارة" أما واشنطن ومخابراتها في القاهرة فكانت تعلم كل شيء من خلال الاجتماعات التأمرية التي سبقت الانقلاب!! وتلا ذلك تأكيدات علنية من "محمد نجيب" القائد الرسمي للانقلاب أرسلها إلى السفارة تقول: "إن قضية فلسطين لا تعنيه في شيء ..!! لكنه زار السفير كافرى بعد ساعات طالبًا سحب بيانه هذا واستبداله بشيء آخر أكثر انسجامًا مع الأسس التي كان مهندسو اللعبة يوافقون عبد الناصر على أنها ضرورية لكل ينال العهد الجديد رضاء الرأي العام المصري .. أي تسرب معلومات للشعب المصري وللأمة العربية تزعم بأن النضال إنما جاء لينتقم من هزيمة أو عار 1948!! وفي نفس الوقت التواطؤ مع الأمريكان بصرف النظر عن القضية الفلسطينة برمتها.
الثورة وقضية فلسطين
وفي كتابه "كلمتي للتاريخ" بهتك محمد نجيب الستر عن رأيه في التعايش بين إسرائيل والدول العربية، وعن اتصالات  الانقلاب منذ البداية مع المرشح الأمريكي للرئاسة بخصوص هذه الموضوع وعن علاقة مجلس قيادة الثورة باليهود سواء كانوا تجارًا أو حاخامات، يقول "نجيب" عندما زار القاهرة "أدلاي ستيفنسون" الذي كان مرشحًا لرئاسة أمريكا قال لي: إن إسرائيل والدول العربية يجب أن تعيش، ووافقته على رأيه وأضفت قائلا: إنني أعتقد أن إسرائيل يمكن أن تعيش كدولة رمزية مثل الفاتيكان لا تكون لها أطماع توسعية في أرض العرب، وعندما افتتح "شيكوريل" وهو "يهودي" محله الجديد الذي بناه بعد حريق القاهرة ذهب "البكباشي أحمد أنور" قائد البوليس الحربي مندوبا عن مجلس القيادة في حفل الافتتاح، وحرصت على زيارة "معبد الطائفة اليهودية" يوم "عيد الغفران" حيث امضيت وقتًا طيبًا مع الحاخام الأكبر "حاييم ناحوم" الذي كان عضوًا في مجمع اللغة العربية كان يقين أن إسرائيل ليس هي عدونا الأول في هذه الفترة، وهكذا عثر الأمريكان على "لاعب جديد" على مسرح الأحداث تنطبق صفاته على كل ما كانت تجري بشأنه التجارب وما كانوا يسعون للحصول عليه، وأصبح واضحًا أن "ناصرًا" ما كان ضروريًا  لجميع مراحل "المسرحية" وأن لعبة بدون "بولونيوس" فمنذ البداية كان "وليم ليكلاند" ضابط الارتباط السياسي في السفارة الأمريكية يعرف أن محمد نجيب كان واجهة لعبد الناصر، وكان محمد حسنين هيكل هو الذي قام –قبل الانقلاب- بتحقيق اللقاءات بين "ليكلاند" والضباط الأحرار وعلى رأسهم عبد الناصر!! وفي الأشهر التي أعقبت الانقلاب كان ليكلاند يستقبلهم في شقته المطلة على النيل .. وبينما كانت الجماهير المصرية والعالم الخارجي يهتف لنجيب كانت السفارة الأمريكية تتعامل –من خلال ليكلاند مع "ناصر" كرجل قادر على اتخاذ القرارات، وكان السفير الأمريكي "كافري" يقوم بين حين وآخر بزيارة محمد نجيب لأسباب روتينية، وكان يسلمه الرسائل التي كانت واشنطن لا تخشى ضياعها في الطريق!! أما العمل الحقيقي بين الحكومتين الأمريكية والمصرية فقد كان يدار من خلال "ليكلاند" و"ناصر" وبالطبع كان ذلك تحت إشراف "كيرميت روزفلت" المشرف والمنسق العام ورئيس لجنة تخطيط الشرق الأوسط الذي لم تنقطع علاقته بعبد الناصر، وبناء على أوامر من الرئيس الأمريكي "إيزنهاور" أرسل "كيرميت روزفلت" شخصية عسكرية من نوعية رجال الثورة لتقييمهم ودراسة أوضاعهم وهو "ستيف ميد" المغامر وخبير التجسس.
واختار عبد الناصر شعاره: ارفع رأسك يا أخي فقد مضى زمن الطغيان، وعندما رفع بعض الناس رؤوسهم ظانين فيه الخير أطاح بتلك الرؤوس، ونادى عبد الناصر بشعار الحرية والديمقراطية، في نفس الوقت الذي كمم فيه الأفواه وحول مصر إلى سجن كبير وأعطيت الإشارة للعندليب الأسمر كي يغني للرئيس شاكرًا له قلبه الكبير وفتحه أبواب الحريات ومرددًا:
إحنا الشعب واخترناك من قلب الشعب، يا فاتح باب الحرية يا ريس يا كبير القلب.
كما صدرت الأوامر لتلاميذ المدارس وأصبح مقررًا عليهم أن يقفوا في طابور الصباح مرددين: يا جمال يا حبيب الملايين .. ماشيين في طريقك ماشيين
وهكذا خلت الساحة إلا من البطل ..!! وبدأ الخط التصاعدي لتلميع هذا البطل بصورة زاهية ليؤدي الدور المرسوم على الساحة العربية.