منيت السياسة المصرية تجاه ملف النيل بسلسلة متتالية من الفشل فطوال 10 سنوات من المفاوضات لم تنتبه إلي إصرار دول المنبع علي مطالبهم وتهاونت في ذلك ثم عندما استيقظت علي ماحدث في اجتماع " كينشاسا " من رغبة هذه الدول في التوقيع رغما عن مصر والسودان لم تحاول البحث عن سياسة بديلة لصيانة حقوقها بل استمرت في سياسة التسويف من خلال ما أسفر عنه مؤتمر الإسكندرية من إعطاء مهلة ستة شهور للتفاوض ومع انتهاء هذه المدة حاولت الحكومة الاستمرار في نفس اللعبة بالدعوة إلي الاستمرار في التفاوض وهو ما رفضته دول المنبع حتي تم التوقيع علي الاتفاقية أخيرا لتخرج الحكومة المصرية بنفس التصريحات والكلام المتكرر عن الحقوق التاريخية.
إن أخطر ما في الاتفاقية الإطارية الجديدة أنها ضمت بندا يشير إلي حق الدول المتشاطئة مع دول حوض النيل في الحصول علي مياه النيل وبالتالي فإن إسرائيل المتشاطئة مع مصر سوف يكون لها الحق في الحصول علي المياه والقصة نفسها تنسحب علي ليبيا أيضا .
والأشد خطورة في الاتفاقية الجديدة أن القانون الدولي يلزم بوجود اتفاقيات جماعية ويمكن في هذه الحالة أن يكون عدم اعتراف دول حوض النيل بالاتفاقية الثنائية بين مصر والسودان ( 1959 ) قانون في حد ذاته .
إن الرصيد الذي صنعته مصر في سنوات طويلة قد تلاشي في سنوات قليلة و لم يكن هذا الرصيد من صناعة ثورة يوليو فحسب لكن سبقته علاقات و صراعات قديمة حول مياه النيل ابتداء من عصر محمد علي ومرورا بعصر إسماعيل ودور انجلترا (رغم أنها كانت تحقق مصالحها بذلك ).
وليس أدل علي ذلك من قيام مصر بإغلاق جميع المكاتب التجارية المصرية في أفريقيا وبيع منشآتها ومبانيها في إطار ما سمي بالخصخصة .
لقد توقفت مصر عن المشاركة في وفود رسمية عالية في مؤتمرات القمة الأفريقية والمؤسسات التابعة لمنظمة الوحدة الأفريقية وحدثت فجوة واسعة في الأنشطة الأهلية والمدنية ترتب عليها غياب كامل لمصر بكل مؤسساتها في دول أفريقيا ابتداء من البعثات الدينية والتعليمية وانتهاء بدور الأزهر الشريف كما تقطعت كل الروابط الدينية بين الكنيسة في اثيوبيا والكنيسة في القاهرة ولم تحاول مصر الإبقاء علي شيء من هذه العلاقات والتي كانت من أهم الروابط بين الشعبين في كل من مصر وأثيوبيا .
لقد ترك النظام المصري أفريقيا خالية من أي دور أو مكانة مصرية مفسحا المجال للدور الاسرائيلي الذي تحرك بخبث ودهاء فأقام العلاقات وساعد في بناء السدود والمشاريع المائية ولم يكتف بذلك بل قام بتأليب دول حوض النيل ضد مصر وساهم في تراجعهم عن كل الاتفاقيات السابقة.
وإن المرء يحار كيف تكون هناك معاهدة سلام بين مصر وإسرائيل وتقوم الأخيرة بهذا الدور المشبوه الذي ينسف هذه المعاهدة من أساسها .
وإذا نظرنا إلي الوضع الداخلي في مصر نجد أن المشكلة الأساسية هي عجز الموارد المائية بصورة واضحة من ناحية والإسراف في استخدام المتاح من ناحية أخري .ثم الاشد والاخطر وهو تلويث النيل بطريقة بشعة وعن اصرار وتعمد .
ونستطيع أن نعرض التوصيات التالية كحلول للقضية :
1- عقد مؤتمر يحضره العلماء والمتخصصون والمسئولون ومتخذو القرار لوضع إستراتيجية وسيناريوهات للتعامل مع الاتفاقية الجديدة لحوض النيل يسترشد بها المفاوض المصري .
2- علي مصر التوقف عن سياسة الاستخفاف بدول حوض النيل ومعاملتها علي أساس أنها دول منبع ولها حقوق والبعد عن نغمة الحق التاريخي في المياه حيث أن الظروف تغيرت وأصبح الماء سلاحا في يد من يمتلك منابعه وخاصة إذا كان ملاك المنابع يعانون من الفقر والمشكلات الاقتصادية الحادة .
3- يجب أن تعيد الدبلوماسية المصرية النظر في وجودها وتأثيرها في دول حوض النيل وتقوم بفتح سفارات نشطة تقوم بمد الجسور للتواصل وفتح مجالات جديدة للتعاون وإعادة المياه إلي مجاريها .
4- إنشاء وزارة للشئون الأفريقية تتولي التنسيق مع دول حوض النيل وتكون ذات اعتماد مستقل يفتح لها الباب لفتح مساعدات وإقامة مشروعات في دول الحوض علي الأقل لمعادلة الدور الإسرائيلي الذي تعاظم في هذه الدول ويكون من مهمتها أيضا تنشيط الروابط الثقافية والحضارية وتقديم البديل المتكامل ( ثقافيا وروحيا وسياسيا واقتصاديا ).
5- الوقوف ضد مخطط تقسيم السودان والعمل علي وحدة أراضيه .
6- حتمية التكامل المصري السوداني والعمل المشترك الجاد لتنمية الموارد المائية والبحث عن سبيل لاستكمال العمل في قناة جونجلي المتوقف منذ عام 1983 والتي من شأنها أن توفر لمصر والسودان 5 مليارات متر مكعب .
7- التنسيق بين مصر والسودان للتأثير علي الدول العربية المانحة والتي لها استثمارات في إثيوبيا ودول الحوض مثل السعودية والامارات وقطر حيث تستطيع هذه الدول أن يكون لها دور مؤثر في مستقبل هذه المنطقة حيث أن هناك مؤتمرات واتفاقات معظمها يتجه نحو الإنتاج الزراعي والحيواني في هذه الدول وهذا كله سيكون خصما من مياه النيل وهو تهديد واضح لمصالح مصر والسودان .
8- إن عودة مصر القوية يعني القدرة علي التفاوض وتحسين وضع المفاوض المصري ومن ثم يجب العودة بقوة للتواجد في البحر الأحمر .ففي هذا البحر توجد قناة السويس وهي مورد هام من الموارد المصرية وعلي البحر الأحمر توجد أكثر من دولة عربية فهو بحر عربي بكل المقاييس ومن الخطر الجسيم ترك أمريكا وإسرائيل تستحوذان عليه وتعبثان بدول حوض النيل ومن ثم يجب العمل علي :
· التواجد العسكري المكثف في حلايب وشلاتين وإقامة قاعدة عسكرية في " بانياس " في البحر الأحمر .
· وقف نزيف الانقسامات في السودان والعمل بكل الوسائل للحيلولة دون فصل الجنوب .
· بقاء اليمن قويا موحدا للحفاظ علي باب المندب ( المنفذ الجنوبي للبحر الأحمر ).
· إنقاذ الصومال من الحروب الأهلية والعمل علي استقراره وإعادته إلي الصف العربي .
· دعم جيبوتي واريتريا ووضع أولويات للتنمية فيهما لإعادة التوازن في مواقع هذه الدول وتنسيق أدوارها .
9- التنبيه علي إسرائيل بشدة لكف يدها عن دول حوض النيل ووقف مشاريعها هناك والتهديد بإلغاء معاهدة كامب ديفيد إذا استمرت في تهديد مصالح مصر .
10- علي المستوي الداخلي يجب :
· مقاومة الهدر ( الإسراف ) وذلك بالاقتصاد في استخدام المياه وترشيد هذا الاستخدام ( سيول – أمطار – خزانات – إزالة ملوحة - معالجة مياه الصرف - تطهير المجاري المائية – تقليل البخر – التخزين في البحيرات – استخدام الطاقة الشمسية والنووية ) حيث أن الفاقد يساوي ثلث حصته من المياه .
تكوين جهاز قومي من المتخصصين في مجالات المياه الجوفية في مصر يتولي تقييم ما تم إنجازه من دراسات ومشروعات المياه الجوفية علي المستوي القومي ورسم خريطة صحيحة للموارد المائية الجوفية في مصر لإعادة التوازن في حالة فقد مياه من حصتنا .
· التوسع في الري بالمياه الجوفية وتخفيض مساحة زراعة الأرز وزراعة الأصناف المبكرة
· استخدام تقنيات جديدة في الزراعة والري مثل ( الري بالرش والري بالتنقيط ).
· مقاومة تلوث نهر النيل .
وأخيرا :
إن حل مشاكل حوض النيل يتطلب النظرة إلي الحوض كوحدة مائية واقتصادية وبيئية واحدة , واعتراف كل دولة بحقوق الدول الاخري وهذا بدوره يتطلب التعاون الكامل بين دول حوض النيل والتركيز علي تبادل المنافع , فحصاد مياه إضافية لزيادة إيراد النيل يتطلب تعاون كل دول الحوض كما أنه يتطلب تعاون أثيوبيا حيث أن معظم إيراد النيل يأتي منها , وكذلك حكومة جنوب السودان ( حيث يضيع عشرين مليار متر مكعب من المياه سنويا في مستنقعات الجنوب ) ويتطلب أيضا ترشيد الاستهلاك في مصر والسودان , كما أن الطاقة الكهربائية في إثيوبيا التي يمكن توليدها من النيل وحده تكفي كل دول الحوض , إضافة إلي أن إمكانيات السودان الزراعية وإمكانيات مصر الصناعية والثروة السمكية في البحيرات الاستوائية ( خاصة بحيرة فيكتوريا ) ضخمة ويمكن توظيفها لخدمة شعوب هذه الدول ولكن هذا لن يحدث بدون التعاون بين دول الحوض والذي هو في نهاية المطاف الوسيلة الوحيدة لحل مشكلة دول الحوض .