الاثنين، 5 مارس 2007

مصـــر والفوضـــــى الخلاقـــــة ـ م. فتحي شهاب





نشأت فكرة "الفوضى الخلاقة" أو"الاضطراب البناء" من خلال الصراعات المسلحة، فحينما كان الموقف العسكرى على مسرح العمليات يتجمد بين طرفين متحاربين وتتوقف مقدرة الطرفين على إحداث هزيمة بالطرف الآخر كان أحد الطرفين يلجأ إلى تفجير الموقف بشكل غير عادى ثم يقوم بتجميع الشظايا لبناء موقف جديد يكون أكثر ملائمة لأهدافه.

التقط المحافظون الجدد وهم المجموعة المحيطة بالرئيس الأمريكى بوش والتى تشكل مطبخ صناعة القرار الفكرة وراحوا يأصلونها ويروجون لها فى العالم، ويؤكد هذه الفكرة دراسة أخيرة نشرها الدكتور "روبرت ساتلوف" مدير معهد واشنطون لشئون الشرق الأدنى من موقعه الخاص على شبكة الانترنت وقد دارت محاور الدراسة حول السياسة الأمريكية فى الشرق الأوسط واستراتيجية "الفوضى الخلاقة" التى تنتهجها الإدارة الأمريكية فى المنطقة والتى تهدف من ورائها إلى خلخلة أوضاعها عن طريق إحداث هزات عنيفة فى البلدان العربية ثم إعادة بنائها من جديد على أسس ديمقراطية – على حد قوله – وقد أكد الدكتور " ساتلوف " أن إدارة الرئيس بوش تؤمن بتلك السياسة وأنها قدرت فترة قد تستغرق حوالى عشر سنوات ليتم تنفيذها فى المنطقة. ولم تقف الدراسة عند هذا الحد ولكنها طالبت الولايات المتحدة بضرورة تشجيع الديمقراطية فى العالم العربى ومساندة الذين ينادون بها مادياً ومعنوياً كما دعى الإدارة الأمريكية لرفض الاقتراح الذى ينادى به بعض الساسة الأمريكيين المشاركين فى اتخاذ القرار والخاص بإقامة حوار مع الأطراف التقليدية ومطالبة بوش بدعم العلاقة مع الليبراليين العرب الذين اعتبرهم "ساتلوف" الأقرب إلى الولايات المتحدة ويؤمنون بنموذج الديمقراطية الأمريكية، وخلاصة هذه النظرية المدمرة تقوم على زعزعة الأوضاع فى دولة ما حتى لو كانت حليفة أو صديقة وتحريض القوى السياسية والاجتماعية فى الداخل لتتحرك رفضاً لنظام الحكم القائم حتى يجد نفسه أمام احتمالين، إما أن يسقط نهائياً وإما أن يخضع للضغوط الأجنبية وينصاع لمطالبها وفى الحالتين يستطيع مهندسو"الفوضى الخلاقة" إعادة بناء الدولة وتركيب قواها ومؤسساتها وفق مخططاتهم وأهدافهم.

والفوضى الخلاقة أنواع فمنها العنيف ومنها الهادئ وبالنسبة للنوع الأول فالمثال الصارخ والواضح له فى العراق حيث قام الجيش الأمريكى باحتلال العراق وتدميره وإطلاق كل قوى الفوضى والسرقة والنهب والقتل والثأر والتصفية العرقية والطائفية بينما هو قابع ينتظر انتهاء حالة الفوضى إلى حالة جديدة "خلاقة" يبنيها على عينيه.

وفى فلسطين لعبت "الفوضى الخلاقة" ولا زالت تلعب دوراً أساسياً فى إثارة الخلافات بين حركتى فتح وحماس وكلما حدث تقارب بينهما أشعلت نيران الخلاف من جديد أملاً فى إشعال حرب أهلية تأتى على الأخضر واليابس وعلى أمل البناء فوق الأنقاض بما يتناسب مع المشروع الصهيوأمريكى. وما ينطبق على العراق وفلسطين ينطبق أيضاً على السودان والصومال.

والنوع الثانى من "الفوضى الخلاقة" الأمريكية والتى تبدو أقل دموية من المشهد العراقى أو الفلسطينى أو الصومالى يتمثل فى أربع ساحات رئيسية فى المنطقة العربية والإسلامية تبدأ بإيران التى دخلت مع أمريكا والغرب لعبة الشد والجذب حول برنامجها النووى التى مضت فيه قدماً بثبات وقوة رغم كل التهديدات بينما أمريكا وحلفائها مترددين فى الانقضاض العسكرى عليها خوفاً من رد الفعل الإيرانى الذى سوف يكون مدمراً لمصالح أمريكا فى المنطقة وخاصة فى العراق ودول الخليج ولذلك فإن اختيارات "الفوضى الخلاقة" ما زالت تحت الاختبار حتى الآن.

أما فى لبنان فقد قطعت "الفوضى الخلاقة" شوطاً بعيداً بدأ بقتل "رفيق الحريرى" رئيس وزراء لبنان ثم اتجهت أصابع الاتهام تشير إلى سوريا وبادرت الأمم المتحدة باستصدار القرار 1559 والذى على إثره خرجت سوريا من لبنان ثم بدأت الفوضى فى استدعاء كل المطرودين من لبنان والمتعاملين مع العدو الصهيونى فى السابق بحجة التسامح وفتح صفحة جديدة من المصالحة الوطنية ثم اختلط الحابل بالنابل واستطاع مهندسو الفوضى أن يخرجوا كل الفرقاء إلى الشارع وبنزول الجيش أيضاً تكون الحلقة قد اكتملت للبناء وفقاً للمصلحة الصهيوأمريكية. وعلى الجانب الآخر مارست "الفوضى الخلاقة" شكلاً آخر لها فى السعودية وبعض دول الخليج بالضغط الناعم والحاسم فى نفس الوقت واستغلت اندلاع الهجمات الإرهابية التى هى من إعدادها سلاحاً إضافياً للضغط على نظام الحكم من ناحية ولممارسة سياسات ابتزازية ضد السعودية لإجراء إصلاحات داخلية من ناحية أخرى رغم أن السعودية هى أكبر مصدر للنفط وأهم شريك للغرب عموما،ً والآن نأتى إلى مصر وقد يظن البعض أنها بعيدة عن مرمى "الفوضى الخلاقة" وهذا نوع من الوهم. إن النغمة التى يرددها بعض السياسيين من أن مصر هى حليف رئيسى لأمريكا ولا يمكن لأمريكا الاستغناء عنها أو المخاطرة بممارسة لعبة "الفوضى الخلاقة" معها احتفاظاً بنظام حكمها الحليف قوياً ومتماسكاً، ولهؤلاء نقول إن من يراهن على الصداقة الأمريكية فهو خاسر مقدماً لأن المصالح الأمريكية لا تعرف الصداقة والذى يتغطى بالأمريكان فهو عريان. إن ما يحدث فى مصر الآن من حراك سياسي على كل الأصعدة من خلال القوى السياسية والاجتماعية التى ترفض الأوضاع الراهنة المتجمدة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً وتبحث عن التغيير السلمى عن طريق الإصلاح الديمقراطى والتى تصطدم بنظام ديكتاتورى مستبد منصاعاً لمهندسى "الفوضى الخلاقة" ومستخدماًُ القوة الأمنية الباطشة وأقصى درجات العنف من ضرب وسحل فى الشوارع واعتقال لا يفرق بين عابر طريق ومتظاهر وبين صحفى يؤدى عمله أو قاض فى طريقه إلى منصته. لقد كان يمكن للنظام أن يسد الطريق أمام الفوضى الأمريكية الخلاقة التى سوف تستغل هذا الحراك وأن يجيب مطالبهم العادلة ولكن يبدو أن مساندة أمريكا للنظام جعلته يستقوى على معارضيه فيضرب ويبطش ويحول المدنيين إلى محاكم عسكرية حتى أصبح النظام فى خصام وقطيعة مع كل القوى السياسية فى مصر من قضاة وصحفيين ومحامين ومهندسين وأساتذة جامعات وعمال وطلبة بل وزاد الطين بلة أن يلجأ النظام إلى العبث بالدستور وتعديل 34 مادة على رأسها المادة (1) والتى سوق تكرس الطائفية والفرقة بين أبناء الأمة تحت دعوى المواطنة والتى سوف تفتح الباب على مصرعيه لدخول الفوضى الأمريكية الخلاقة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق