الأحد، 6 مارس 2005

ثورة يوليو .. وصناعة الزعيم ـ م. فتحي شهاب


        قام انقلاب يوليو برفع شعارات الحرية والديمقراطية والعدالة، وفي نفس الوقت قام بسحق الحرية وذبح الديمقراطية، أما العدالة فقد ألحقها بخبر كان، فباسم الثورة سيطر حكم الفرد واستبيح الإنسان المصري في نفسه وشرفه وعرضه، وشهدت البلاد مخابرات دمرت ثقة الإنسان بأخيه وأمه وأبيه وعاثت فى الأرض فساداً يزرى بكل فساد، مما تحققت به مقولة "القائد الخالد جمال عبد الناصر" "ارفع رأسك يا أخى فقد مضى عهد الطغيان" .ثم بدأت خطوات تلميع البطل وصناعة الزعيم وكانت أولى هذه الخطوات التى سيصعد بها نجم الزعيم هى "صفقة الأسلحة التشيكوسلوفاكية". تقدم عبد الناصر بطلب أسلحة من الولايات المتحدة ووافقت واشنطن بادئ الأمر..ثم جمد الطلب لأسباب قيلت أنها إدارية..ثم أعلن عن رفض الأمريكان تزويده بالأسلحة التى وعدهم بأنها لم تستخدم ضد اسرائيل وإنما لأمن النظام وتعزيزه مركز فى الداخل.
        ماذا يفعل الرجل إذن؟
        لابد أن يبحث عن مصدر آخر للسلاح لأن الغرب خذله..وبادرت روسيا بالموافقة على تزويد مصر بالسلاح من خلال تشيكو سلوفاكيا.
        هكذا بدت الصورة الملمعة أمام الناس!!
لكن ما جرى في "الاستوديو" ومن خلف "الكواليس" وما وراء الجدران الصماء – التي لم يدم السر طويلا معها –كان عكس ذلك تمامًا!!.
يقول مايلزكو بلاند رجل الـ C.I.A  في مصر في كتابه (لعبة الأمم): "تلقى كيرميت روزفلت رسالة شخصية من عبد الناصر قال فيها إنه على وشك توقيع إتفاقية مع السوفيت وإنه إذا كان يريد أن يثنيه عن عقد هذه الإتفاقية فهو يرحب به في القاهرة وهكذا اتجهت أنا وروزفلت إلى القاهرة، في صباح اليوم التالي وفي شقة عبد الناصر في الطابق الأعلى من مبنى قيادة الثورة كانت المفاجأة على العكس مما كان يتوقع عبد الناصر، فبدلا من أن يقوم روزفلت باثنائه عن قبول صفقة السلاح السوفيتية قال له:
"إن كانت الصفة فعلا بهذه الضخامة التي سمعنا بها فما عليك إلا القبول بها لأنها وإن أغضبت البعض فستجعل منك عظيما وتكسبك تأييدًا فريدًا، فلماذا يا ناصر لا تستغل هذه الموجة المفاجئة من التأييد الشعبي لتتخذ بعض القرارات التاريخية حقًا؟! إننى على استعداد لأن أقبل مشاركة الإسرائيليين للقيام بمجهود مشترك بغية الوصول إلى سلام دائم في المنطقة إن هم أرادوا فعلا ولم يتمالك ناصر نفسه عند سماع هذا الاقتراح فقد طار به فرحًا وقفز مبتهجًا وقال إنها فكرة رائعة".
        "وتابعنا مناقشة هذه الفكرة حتى منتصف الليل فناصر سيدرج إعلانه عن الأسلحة السوفيتية في بيان ضخم في ختف له لا التقدميون في مصر فحسب بل العناصر المحافظة أيضًا، ثم يتبع ذلك بحملة حياد دولية يرضى بها جميع الأطراف بينما يستمر داخليا في إصلاحاته الاجتماعية والاقتصادية عن طريق المساعدات الأمريكية.
ويستطرد كويلاند: "وأخرج عبد الناصر زجاجة من "السكاتش ويسكي" الذي يحتفظ به عادة للزوار الممتازين، وبينما كان يفعل ذلك رن جرس الهاتف ليقول الضابط في الطابق الأدنى أن "السير همفري تريفليون" السفير البريطاني بموعد مستعجل ..
ولم يستمر اجتماع "ناصر –تريليون" أكثر من خمس دقائق .. وجرت بعد ذلك مراجعة مسودة الخطاب الذي سيقليه في خريجي الطيران، وكنا نتبادل النكات حول ما كان يمكن أن تتحول إليه ملامح السفير البريطاني لو أن روزفلت أو أنا دخلت قاطعًا عليه خلوته مع ناصر وبيدي كأس الويسكي لأقول له: عفوا جمال .. لقد انتهت الصودا فمن أين نحصل على المزيد منها؟!" هذا عن دور الأمريكان في الصفقة!!
أما عن دور الإنجليز فيها فترويه "وثائق الخارجية البريطانية" –تحليل وتعليق سير "انتوني ناتنج" وزير الدولة للشئون الخارجية البريطاني الأسبق حيث يقدم أنتوني ناتنج للموضوع بقوله: "إن عبد الناصر كان يأمل في إمكانية ترتيب صفقة بين مصر وإسرائيل، ودخل من أجل هذا الهدف في اتصالات سرية مع رئيس وزراء إسرائيل "موسى شاريت" وإن عبد الناصر تردد في طلب المساعدة من المعسكر السوفيتي ففي أواخر الأربعينيات كانت روسيا تعارض باستمرار مصر والعرب في القضية الفلسطينية، والواقع أنها صوتت إلى جانت خطة الأمم المتحدة لتقسيم فلسطين وخلق الدولة اليهودية، كما أنها خاضت في حقيقة الأمر سبقًا غير مشرف مع الأمريكيين لتكون أول دولة تعترف بإسرائيل، كما زود المعسكر السوفيتي إسرائيل بالأسلحة التي استخدمتها للانتصار في  الحرب" ويكشف "انتوني ناتينج" السر عن الخطة البريطانية ذات المرتكزات الثلاثة لتشجيع هذه الصفقة قائلا:-
1-    علينا ألا نحاول دخول منافسة مع الكتلة الشرقية في تسليح مصر، وعلينا أن نقبل بكل شرف وكرامة نستطيعها العقود التي توصلت إليها مصر مع تشيكو سلوفاكيا، وإذا كان ممكنا فعلينا إغراء عبد الناصر من أجل تحديدها.
2-    حيث أن إسرائيل تكمن في قلب مشكلة الشرق الأوسط فإنه لا تزال هناك طريقة واحدة مشرفة للخروج من مصاعبنا هناك وهي إيجاد تسوية بين إسرائيل وجيرانهها العرب، ومهما كانت الفرص والإمكانيات  غير مشجعة فإن هذا يجب أن يظل هدفنا الرئيسي والملح.
3-    إن علينا بدلا من أن نحاول منع سانت كلوس (بابا نويل) السوفيتي من تسليم السلع والهدايا لمصر –وهو ما كان السوفيت يصورون أنفسه عليه- فإن علينا أن نسمح لهم بالفرصة لكي يظهروا على حقيقتهم وهي أن وراء ستار الكرم والسخاء يكمن دب شرس باسنان حادة ومخالب قوية".
"وقد وجدت هذه التوصيات تأييدا من وزير الخارجية البريطاني "هارولد ماكميلان" الذي نصح على الفور "أنتوني أيدن" بذلك.
ثم بدأ الإعلام الفاسد دوره في تلميع البطل فتم استدعاء الصحفي اللبناني "سعيد فريحة" ليكتب في صحيفة "الأنوار" وهو يزف للعرب بشارة الزعيم أنه رأي وزير الخارجية الأمريكي "جورج ألسن" "ملطوعًا" في مكتب التشريفاتي "صلاح الشاهد" في انتظار جمال عبد الاصر وأنه -أي ناصر- طرد السفير البريطاني في صفقة الأسلحة، وبالطبع يصفق العرب!!.
ثم يعلن البطل عن سياسته تجاه إسرائيل وتصوره للقضية الفلسطينية في عري صريح وذلك في حديث أدلى به إلى مجلة "نيوزويك" الأمريكية عام 1955 أعلن فيه أنه يرغب في السلام أي الصلح وأن المشكلة الفلسطينية تنحصر في "تدويل القدس" وتعويض اللاجئين، ونسي الزعيم وهو رجل عسكري أنه شتان بين اتفاقيات الصلح واتفاقيات الهدنه فيما يختص باستقرار الأمور لأنها خطوط مؤقتة وليست حدودًا للدول المعنية، وكان من الضروري على حد تعبير "الفريق صلاح الدين الحديدي" أن يكون الحل الدائم" بجولة عسكرية ثانية تتحدد بنتيجتها الأوضاع النهائية في المنطقة بأسرها" وكان الرد العملي لإسرائيل هو اجتياح سيناء في أكتوبر 1956، ورغم أن بريطانيا وفرنسا قد خرجتا من "المولد بلا حمص" فإن إسرائيل قد خرجت من حرب 56 وجيوبها ممتلئة بالهداية الآتية:
1-    نزلت قوات الطوارئ الدولية إلى مصر وقبلت الحكومة وجودها بينما رفضت إسرائيل ذلك وطالبت هذه القوات بعدم وجود أية قوات مصرية لمسافة عشرة كيلو مترات من الحدود ووافقت مصر.
2-    استولت إسرائيل على منطقة شرم الشيخ وظهرت "إيلات" كميناء بحري اعتمدت عليه إسرائيل في ربطها بالبحر الأحمر وبدول آسيا وأفريقيا.
3-            حرية الملاحة لإسرائيل في خليج العقبة.
وهكذا وبعد فضيحة الهزيمة واستقرار الأوضاع مع إسرائيل والتسليم المشبوه بما وضعت يدها عليه من أرض جديدة ومنافذ بحرية كان لابد من مغامرة جديدة يصرف بها الزعيم الجماهير عن التفكير في موضوع إسرائيل بعد ست سنوات من وجود النظام الذي زعم أصلا أنه جاء أو على الأقل ما جاء من أجله للانتقام مما حدث في حرب فلسطين عام 1948.فماذا يا ترى يفعل الزعيم؟!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق