السبت، 5 مارس 2005

ثورة يوليو .. ولعبة الأمم ـ م. فتحي شهاب



انتهت الحرب العالمية الثانية عام 1945م وأصبح الغرب الأوروبي ضعيفا من الوجهة الاقتصادية والعسكرية، وشاخت بريطانيا وفرنسا وصارتا أقل مقدرة على تدعيم الامبراطوريات، وأمسكت الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي بدفة العالم.
في 21 فبراير 1947 قدمت السفارة البريطانية في واشنطن مذكرة إلى وزارة الخارجية الأمريكية تعلن فيها نهاية الوصاية البريطانية في الشرق الأوسط، في نفس اليوم  الذي كان فيه وزير الخارجية الأمريكي "جورج مارشال" يلقى أمام حشد من الشباب الأمريكي في "برنستون" خطة أوضح فيها "الدور الذي أصبح على الولايات المتحدة أن تلعبه في العالم بعد أن تغلغلت في كل أركانه جغرافيا وماليا وعسكريا وعلميا، ودعا الأمريكيين حيال وضع كهذا أن يرتفعوا إلى مستؤلياتهم لضمان أمن وسلامة العالم".
ووضعت في واشنطن قواعد "لعبة الأمم" وأشارت مذكرات الحكومة الأمريكية عام 1947 بوضوح وتأكيد إلى أن أجهزة المخابرات والسلك الدبلوماسي كانتا على وشك القيام بتغييرات في قيادة بعض دول الشرق الأوسط باللجوء إلى تغيير أولئك الذين يشكلون حجرة عثرة في طريق السياسة الأمريكية واستبدالهم بآخرين أكثر انسجامًا مع الظروف، يقول مايلز كويلاند، صاحب كتاب "لعبة الأمم" وعلى هذا الأساس استعار "دين انشيسون" –وزير الخارجية- كيرميت روزفلت" في عام 1951 من المخابرات الأمريكية ليرأس لجنة من المختصين، كما استعار آخرين من وزارتي الدفاع والخارجية، وجلبت آخرين كمستشارين من قطاعي الأعمال التجارية والجامعات، وكانت مهمة هذه اللجنة دراسة العالم العربي وبصورة خاصة "النزاع العربي الإسرائيلي".
في أوائل عام 1952 أنهت اللجنة تقريرًا حول "لعبة الأمم" في الشرق الأوسط فحواه أن أمريكا في حاجة إلى قائد عربي تتجمع بين يديه سلطات تفوق كل ما تيسر لأي زعيم عربي آخر من قبل .. سلطات تمكنه من اتخاذ قرار سواء رضي به الشعب أم لا .. والرجل الوحيد الذي يستطيع الحصول على مثل هذه السلطة هو الشخص الذي يتطلع إليها بشوق.
الجيش وحده يستطيع
في مايو 1952 وافق "كيرميت روزفلت" على رأي "جيفرسون كافري" السفير الأمريكي في القاهرة على أن الجيش المصري وحده هو الذي يستطيع مواجهة الموقف المتدهور في مصر وإقامة حكم تستطيع الدول الغربية أن تتعامل معه في حدود المنطق والمعقول.
وقد تم الاتفاق على أن العلاقات المقبلة  بين الحكومة المصرية الجديدة التي ستتألف بعد الإنقلاب والحكومة الأمريكية يجب أن تقوم على أساس شعارات للإعلان فقط، تقول بوجودب عودة الحكم الديمقراطي إلى مصر، على أن يكون مفهومًا بصورة ضمنية وسرية أن الشروط اللازمة لذلك الحكم الديمقراطي لم تتوفر بعد، وهي لن تتوفر لسنين قادمة .. وفي كل الأحاديث التي دارت بين الضباط الأحرار وكيرميت روزفلت –عميل المخابرات الأمريكية- قبل شهرين من انقلاب عام 1952 كان موضوع السخط على بريطانيا هو الموضوع الوحيد الذي دار حوله البحث، وعاد كيرميت روزفلت إلى واشنطن قبل شهرين من الانقلاب وقدم إلى وزير الخارجية الأمريكية "دين انيشيسون" تقريرًا وردت فيه النقاط الآتية:
1-    لم يعد هناك أي احتمال يحول دون وقوع ما يرجون المخططون في وزارة الخارجية وأن الجيش سيقوم بانقلابه القريب.
2-    إن الضباط الذين يرجح أن يقودوا الانقلاب ستكون لهم مبرراتهم القوية، وسيزيد ذلك من حظهم في النجاح وسيجعل منهم مفاوضين مرنين عندما يحتلون مراكز السلطة.
3-    على الحكومة الأمريكية أن تحجم بعد الإنقلاب عن محاولة إقناع العسكريين بإجراء انتخابات أو إقامة حكومة دستورية.
4-    بالنسبة للحاجة إلى عدو  يجتمع على كراهيته الجميع (وفقًا لمبدأ برتراند راسل) فلن يكون هذا العدو إسرائيل .. بل الطبقة الأولى داخل مصر، وكذلك الإنجليز. يقول كويلاند: وقام الانقلاب ليلة 23 يوليو 1952، وإذا كانت السفارة الأمريكية في القاهر لم تطلع على أخباره في حينها فلا يعود ذلك إلى تقصير من "جمال عبد الناصر" –بطل اللعبة- بل إن السفارة كانت مغلقة في الليل "غير أن "علي صبري" –مدير مكتب عبد الناصر ورئيس وزارته وأمين اتحاده الاشتراكي ونائبه على تسلسل وظائفه –قدم إلى السفير كافري تقريرًا شاملا عما حدث قبل ليلة واحدة من الانقلاب، مع تأكيدات بأن الحكومة الجديدة ترغب في علاقات ودية في الولايات  المتحدة ..!! هذا من ناحية الشكل الرسمي أي "السفارة" أما واشنطن ومخابراتها في القاهرة فكانت تعلم كل شيء من خلال الاجتماعات التأمرية التي سبقت الانقلاب!! وتلا ذلك تأكيدات علنية من "محمد نجيب" القائد الرسمي للانقلاب أرسلها إلى السفارة تقول: "إن قضية فلسطين لا تعنيه في شيء ..!! لكنه زار السفير كافرى بعد ساعات طالبًا سحب بيانه هذا واستبداله بشيء آخر أكثر انسجامًا مع الأسس التي كان مهندسو اللعبة يوافقون عبد الناصر على أنها ضرورية لكل ينال العهد الجديد رضاء الرأي العام المصري .. أي تسرب معلومات للشعب المصري وللأمة العربية تزعم بأن النضال إنما جاء لينتقم من هزيمة أو عار 1948!! وفي نفس الوقت التواطؤ مع الأمريكان بصرف النظر عن القضية الفلسطينة برمتها.
الثورة وقضية فلسطين
وفي كتابه "كلمتي للتاريخ" بهتك محمد نجيب الستر عن رأيه في التعايش بين إسرائيل والدول العربية، وعن اتصالات  الانقلاب منذ البداية مع المرشح الأمريكي للرئاسة بخصوص هذه الموضوع وعن علاقة مجلس قيادة الثورة باليهود سواء كانوا تجارًا أو حاخامات، يقول "نجيب" عندما زار القاهرة "أدلاي ستيفنسون" الذي كان مرشحًا لرئاسة أمريكا قال لي: إن إسرائيل والدول العربية يجب أن تعيش، ووافقته على رأيه وأضفت قائلا: إنني أعتقد أن إسرائيل يمكن أن تعيش كدولة رمزية مثل الفاتيكان لا تكون لها أطماع توسعية في أرض العرب، وعندما افتتح "شيكوريل" وهو "يهودي" محله الجديد الذي بناه بعد حريق القاهرة ذهب "البكباشي أحمد أنور" قائد البوليس الحربي مندوبا عن مجلس القيادة في حفل الافتتاح، وحرصت على زيارة "معبد الطائفة اليهودية" يوم "عيد الغفران" حيث امضيت وقتًا طيبًا مع الحاخام الأكبر "حاييم ناحوم" الذي كان عضوًا في مجمع اللغة العربية كان يقين أن إسرائيل ليس هي عدونا الأول في هذه الفترة، وهكذا عثر الأمريكان على "لاعب جديد" على مسرح الأحداث تنطبق صفاته على كل ما كانت تجري بشأنه التجارب وما كانوا يسعون للحصول عليه، وأصبح واضحًا أن "ناصرًا" ما كان ضروريًا  لجميع مراحل "المسرحية" وأن لعبة بدون "بولونيوس" فمنذ البداية كان "وليم ليكلاند" ضابط الارتباط السياسي في السفارة الأمريكية يعرف أن محمد نجيب كان واجهة لعبد الناصر، وكان محمد حسنين هيكل هو الذي قام –قبل الانقلاب- بتحقيق اللقاءات بين "ليكلاند" والضباط الأحرار وعلى رأسهم عبد الناصر!! وفي الأشهر التي أعقبت الانقلاب كان ليكلاند يستقبلهم في شقته المطلة على النيل .. وبينما كانت الجماهير المصرية والعالم الخارجي يهتف لنجيب كانت السفارة الأمريكية تتعامل –من خلال ليكلاند مع "ناصر" كرجل قادر على اتخاذ القرارات، وكان السفير الأمريكي "كافري" يقوم بين حين وآخر بزيارة محمد نجيب لأسباب روتينية، وكان يسلمه الرسائل التي كانت واشنطن لا تخشى ضياعها في الطريق!! أما العمل الحقيقي بين الحكومتين الأمريكية والمصرية فقد كان يدار من خلال "ليكلاند" و"ناصر" وبالطبع كان ذلك تحت إشراف "كيرميت روزفلت" المشرف والمنسق العام ورئيس لجنة تخطيط الشرق الأوسط الذي لم تنقطع علاقته بعبد الناصر، وبناء على أوامر من الرئيس الأمريكي "إيزنهاور" أرسل "كيرميت روزفلت" شخصية عسكرية من نوعية رجال الثورة لتقييمهم ودراسة أوضاعهم وهو "ستيف ميد" المغامر وخبير التجسس.
واختار عبد الناصر شعاره: ارفع رأسك يا أخي فقد مضى زمن الطغيان، وعندما رفع بعض الناس رؤوسهم ظانين فيه الخير أطاح بتلك الرؤوس، ونادى عبد الناصر بشعار الحرية والديمقراطية، في نفس الوقت الذي كمم فيه الأفواه وحول مصر إلى سجن كبير وأعطيت الإشارة للعندليب الأسمر كي يغني للرئيس شاكرًا له قلبه الكبير وفتحه أبواب الحريات ومرددًا:
إحنا الشعب واخترناك من قلب الشعب، يا فاتح باب الحرية يا ريس يا كبير القلب.
كما صدرت الأوامر لتلاميذ المدارس وأصبح مقررًا عليهم أن يقفوا في طابور الصباح مرددين: يا جمال يا حبيب الملايين .. ماشيين في طريقك ماشيين
وهكذا خلت الساحة إلا من البطل ..!! وبدأ الخط التصاعدي لتلميع هذا البطل بصورة زاهية ليؤدي الدور المرسوم على الساحة العربية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق