الاثنين، 7 مارس 2005

ناصر والوحدة العربية ، م. فتحي شهاب


كان لابد للزعيم من مغامر جديدة يصرب بها أنظار الناس عن هزيمته في 56 وما حصلت عليه إسرائيل من مكاسب، وكان لابد أيضًا من التنفيس عن البخار المكتوم في صدور الشعب أو على حدي تعبير مايلز كوبلاند "التنفيس  العاطفي Emotional outlet"
وكانت الظروف مواتية .. فقد شهد عام 1956، توطدا زائدًا في العلاقات السورية الروسية إلى الحد الي بات معه رتق الصدع في الجبهة الوحدة تجاه السوفيت أمرًا غير بسيط، وأصبح "نوري السعيد" في العراق في موقف صعب ومكشوف، وكان الملك حسين يتظاهربالالتحاق بركب عبد الناصر –خوفًا وطمعًا- دون أن يشعر بالارتياح أو الاستقرار، وكانت الأوضاع في لبنان على وشك الانفجار، يقول كويلاند: وفطن عبد الناصر إلى قواعد اللعبة فوجد فيها البلسم الشافي، ولجأ إلى التشاور مع أصدقائه الأمريكيين واستنفرهم للتعاون معه بغية سد الثغرة التي ظهرت في "جبهته ضد الشرق" في الوقت الذي كان يتشاور فيه مع السوفيت عن مشكلة سد الثغرة في "جبهته الغربية" التي أصبحت كثيرة الثقوب، وأرسل رئيس المخابرات المركزية الأمريكية إلى جمال عبد الناصر بخبره أن الولايات المتحدة لا تخطط لشيء بالنسبة لسوريا وأنه من الأفضل له أن يهتم بالنشاط التخريبي السوفيتي هناك وأكد أصدقاء عبد الناصر الأمريكيون أنه بسبب تجارب سابقة أحرقت الأصابع الأمريكية في سوريا للأمريكيون أية نية للتدخل في شئون ذلك البلد، وهذكا فإن فكرة عقد صفقة مع عبد الناصر بشأن سوريا كانت مغرية لكل من الأمريكان وعبد الناصر على حد سواء وكانت الصفقة هي الوحدة.
وحدة مصر وسوريا تحت اسم الجمهورية العربية المتحدة، فعلى مستوى الجيش استطاع عبد الناصر إيصال رجله "عبد الحميد السراج" إلى ظيفة رئيس المكتب الثاني" في الجيش السوري –المخابرات- وقا السراج بدوره بجمع مجموع من الضباط حوله أطلق عليهم "الوحدويين" أو "الناصرييين" وزعهم على جميع أنواع القوات المسلحة السورية، وعلى المستوى الحكومي والنيابي حدث التقارب مع حكومي "سعيد الغزي" و"صبري العسلي" المتعاقبتين اللتين مهدتا للوحدة منذ أوائل عام 1957.
واتخذ البرلمان السوري قرار الموافقة .. وأعلن قيام الجمهورية العربية المتحدة عام 22 فبراير عام 1958 برئاسة جمال عبد الناصر، وكان "حزب البعث" –الذي أصبح أحد زعمائه "أكرم الحوراني" نائبًا لرئيس –هو الذي أعطى ما سمى "الزخم العقائدي" لدولة الوحدة..!! والمعروف أن حزب البعث هو حزب علماني لا ديني يكن  عداء صريحا للإسلام، ومع ذلك رحبت الجماهير العربية بدولة الوحدة دون أن يغيب عن بالها التناقض بين "شمول" الإسلام كدين يجمع العرب وبين "محدودية" القومية كولاء علماني، ومن ثم فهم ليسوا في حاجة إلى تلامذة المبشرين وصبية اليهود أمثال "ميشيل عقلق" ليفلسفوا لهم وجودهم القومي.
وبناء على سياسة توزيع الأدوار في "أمن الشرق الأوسط" وحماية الوجود الصهيوني تميزت الفترة من عام 1956 إلى عام 1962 باتفاق روسيا وأمريكا على سياسة متوازنة في المنطقة بين النفوذ الأمريكي وتسريب الفكر الشيوعي كانت أمريكا تهدف إلى تهيئة الأجواء في العالم العربي من خلال جمال عبد الناصر لدخول الشيوعية فكر وأيديولوجية لأنظمة الحكم لا أحلافا مضادة للغرب تخرج عن لعبة الحياد الإيجابي وعدم الانحياز!! وكان لإسرائيل مصلحة كبرى في هذا المخطط الشيطاني الرهيب والبعيد الأعماق.
فالشيوعية أقدر من الغرب على محاربة الإسلام وإبعاده عن أداء دوره تجاه إسرائيل حركة وفكرًا وجهادًا، ومع أن إسرائيل قد حوصرت تمامًا بين إقليمي الجمهورية العربية المتحدة (الإقليم السوري) شمالا (والإقليم المصري) جنوبا وبين الجيشين (الأول) شمالا و(الثاني) جنوبا .. إلا أن العلاقات مع زعيم العروبة كانت "سمنا على عسل" ولم يحدث ما يعكر صفوها طوال ثلاث سنوات ونصف هي عمر الوحدة منذ النشأة وحتى الانفصال!! بل لم يفكر "القائد الخالد" حى في استرداد ما فرط فيه هو من أرض مصرية انتزعتها منه إسرائيل!! وراح –بديل-  يصرف الجماهير عن قضيتها الأساسية ويدخل في قلب المعارك اللبنانية من غير نتيجة.
واشتعلت بينه وبين عراق "عبد الكريم قاسم" معارك الدائرة الجهنمية التي لم تؤد إلى إلا استنزاف الموارد وتكريس الثارات وكأنه أمر يراد، وكان "قاسم" قد قام بانقلابه العسكري مدعوما من عناصر بعثية وشيوعية وناصرية ثم انتهى دوره الذي بدأه في عام 24 يوليو 1958 بمصرعه عام 1963، ثم توالت الانقلابات حتى انقلاب البعث العراقي الأخير وانفراد "صدام حسين التكريتي" بحكم العراق" وكان الأمريكان يفضلون "ناصر" على كل حكام  المنطقة سواء أكانوا زعماء انقلابيين أو ملوكا أو رؤساء تقليديين لأن "لناصر" دورًا محددًا في مرحلة أو مراحل معينة!! يقول كويلاند:
"كنا نفضله على قاسم العراق وعلى الملك سعود وحتى على الرئيس اللبناني شهاب وبغض النظر عن المصائب التي كانت تحل به كل ثلاثة أو أربعة أعوام فإن "ناصر" كان يزداد قوة وصمودًا فهو هناك ودائما والتفكير بغيره عبث والعبث حرام".
وبعد منتصف ليلة 26 سبتمبر 1961 خرج حيدر الكزبري" على رأس كتائب من القوات المسلحة السورية واستولى على إذاعة دمشق وأعلنت بيانات تقول بأ الشعب السوري قد تخلص من ديكتاتورية عبدالناصر السوداء، وأشهدت تلك البيانات العالم الحر على خلاص سوريا من نظامه البغيض .. وكان "حيد الكزبري" ذاك أحد مديري مكتب "المشير عبد الحكيم عامر" نائب رئيس الجمهورية والقائد العام للقوات المسلحة والذي كان موجودًا في سوريا أيام ذلك الإنقلاب .. وفي نفس الوقت كان الطيار "موفق عصاصة" يقود سربا من الطائرات حلقت فوق دمشق وهددت بضرب بعض الأهداف بالقنابل إن أعاد عبد الناصر الاستيلاء على سوريا بالقوة، ووقع بعض الساسة السوريين من اتجاهات مختلفة وثيقة الانفصال ومنهم البعثي الشهير "صلاح البيطار"!! وهكذا ضرب أمشل شعبي في مقتل، ليس لأن الجماهير العربية السورية تكره الوحدة، ولكن لأن العلمانيين الملاحدة هم الذين فاوضوا اصلا من أجل هذه الوحدة وأسندت إليهم المناصب القيادية سواء في الوزارة أو الاتحاد القومي في سوريا، يقول السادات: في كتابة البحث عن الذات:
سخط الشعب السوري على عبد الناصر وعلى الوحدة سخطا حقق ثماره عندما صحا الناس في دمشق يوم 26 سبتمبر 1961 على وحدات من الجيش السوري وهي تحاصر القيادة العسكرية وكان عبد الحكيم عامر يعيش في فيلا ملاصقة للقيادة فلما عرف أنباء الحركة أسرع إلى القيادة ولكن الجيش السوري ضيق الحصار عليه، وألقى القبض على عامر وشحنوه في طائرة إلى مصر وتم بذلك الانفصال وذهب الوحدة بين مصر وسوريا كأن لم تكن".
وهكذا أسدل الستار على الوحدة التي لن يغلبها غلاب!! كما كانت تعلن الإذاعة  طول ثلاثة أعوام وهي عمر الوحدة، ومع ذلك سارع "الزعيم الخالد" وأعزى الانفصال إلى "الرجعية العربية" "والإقطاع" و"الرأسمالية" وعلى ذلك فقد تم حل "الاتحاد القومي"  وطلع علينا "الميثاق" الذي صاغه هيكل "مفكر الناصرية الأوحد في ذلك الوقت" ليصبح كتابا مقدسا يتلى في المدارس والجامعات وتصاغ به الحياة على أرض مصر، وأعلن عن قيام "الاتحاد الاشتراكي العربي" كتنظي سياسي يضم ما سمى بـ "تحالف قوى الشعب العامل"، وتميزت الفترة من 1961 – 1967 بتراجع أمريكا خطوة إلى الخلف لتفسح المجال لروسيا حتى يتم تنفيذ المخطط المتفق عليه لصالح إسرائيل، وتطبيقا لهذاالمخطط تحرك عبد الناصر على عدة محاور في وقت واحد لصرف الأمة والشعب المصري بصفة خاصة عن القضية المركزية والخطر الرهيب على الحدود في الشرق والعائق المانع بين شرق البلاد العربية وغربها والفيروس الغريب المزروع في قلبها والمسمى إسرائيل، ففي الداخل كان كل هم النظام الناصري المهزوم تعميق "الحقد الطبقى" بين الشعب وتأجيج "الصراع الحركي" تحت ستار ما مسى "تأصيل الفكر الاشتراكي" مع إشاعة جو من الإرهاب يمكن أن يطلق عليه في تلك الفترة بحق "عصر الرعب" وفي الفترة من نهاية عام 1964 وبداية عام 1965 تم إنشاء "الحزب الطليعي" وهو "كادر سري" داخل الاتحاد الاشتراكي ضم قيادات النظام والكوادر النشطة للشيوعية، وكانت وظيفة هذا "الجهاز السري" كما حددها صانعوه أن يكون عصبا للاتحاد الاشتراكي يتولى توجيهه والاسراع بإنجاز "التطبيق الاشتراكي" وكان الأخطر والأدهى من مهام هذا الجهاز هو متابعة وملاحقة من يشك  في ولائه للاشتراكية في مواقع الانتاج والخدمات والجامعات والمدارس وأجهزة الثقافة والإعلام!
وتركزت تلك السياسة داخليًا وخارجيًا، تربويا وثقافيا وترفيهيا بما في ذلك الأغاني على صنم اسمه "الاشتراكية" التي لم تكن في حقيقة الأمر سوى رأسمالية الدولة أو اشتراكية توزيع الفقر، وطمأن الاتحاد السوفيتي إسرائيل على انصراف نظام عبد الناصر عنها في مرحلة الاحتواء السوفيتي في خطاب ألقاه السفير الروسي في المؤتمر اليهودي العالمي" الذي عقد في إسرائيل وفي المجتمع اليهودي العالمي أن تؤيدوا سياسة الاتحاد السوفيتي في الشرق العربي لأنها سياسة فيها كل النفع والخير لإسرائيل واليهودية العالمية"!!
وفي منتصف مايو 1967 وقبل أيام من الهزيمة النكراء التي سقطت فيها ثلث أراضي مصر في أيدي اليهود –علاوة على القدس وبقية فلسطين والجولان- اجتمع "قادة الفكر الاشتراكي" في مصر من كبار أعضاء "التنظيم الطليعي" والمنظرين العقائدين من شيوعيين وناصريين ووزراء وصحفيين كبار وأستاذة ماركسيين .. اجتمعوا ليناقشوا أخطر قضايا المرحلة وهي تعريف "من هو العامل ومن هو الفلاح"!! وما زلت أذكر ونحن طلبه في كلية الهندسة  جامعة القاهرة كيف قطع عميد الكلية حينئذ (د. العريان) محاضرته ليسأل أحد الطلبة: هل تستطيع أن تعرف من هو العامل ومن هو الفلاح؟!! فقد كان الموضوع يفرض نفسه على كل وسائل الإعلام في هذه الفترة التعيسة. وإذا كان النسا يتندرون منذ قرون بما يسمى "السفسطة البيزنطية" أو الجدل البيزنطي حول أشياء تافهة انشغل بها مفكروهم ورجال دينهم وظلو كذلك حتى ليلة سقوط مدينتهم، فإن ما حدث في مصر لا يستحق التندر فحسب، بل إنه جدير بالدمغ والإدانة والمحاكمة – في الحد الأدنى- لهؤلاء الذين ظلوا "يسفسطون" حتى دهمتهم إسرائيل في عقر دارهم في ليلة غاب شمسها من يوم 5 يونيو عام 1967.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق