الأربعاء، 28 مارس 2007

الطغيان وطبائع العبيد ـ م. فتحي شهاب





مصر هى أم الفرعنة والاستبداد والطغيان وكان الملك فى مصر الفرعونية هو الإله "حورس" الذى تتجسد فيه مصر. فملك مصر هو "سيا" إله الإدراك وهو"رع" إله الشمس وهو "خنوم" خالق البشر وهو "باسنش" الحامى و"سَخمت" إله العقاب.


وبذلك كان الفرعون هو باعث الحركة والنشاط والقوة والحيوية والصحة لا فى شعب مصر فحسب بل فى الطبيعة أيضاً فهو إذا ما تولى العرش يرتفع منسوب المياه فى مجرى النيل ويرتوى الزرع والضرع.

ومن الطبيعى ألا نجد مثل هذا الارتباط بين شخصية الحاكم ومسار الطبيعة أو التوحد بينه وبين الناس فى هوية واحدة إلا فى نظام الطغيان فيستحيل أن ينهار الناس أو يسقط الحكم عندما يموت الحاكم فى دولة ديمقراطية بالغاً ما بلغ حبهم له أو تعلقهم به.

فقد حزن الأمريكيون بعد اغتيال (كنيدى) لكنهم لم ينهاروا، وأسقط الإنجليز (تشرشل) رغم احترامهم وتقديرهم له، وفعل الفرنسيون نفس الشئ مع ديجول.
أما الطاغية عندنا فهو الشعب وهو مصدر كل السلطات بطريق مباشر أو غير مباشر وأى نقد لسلوكه أو هجوم على سياسته هو نقد وهجوم على البلد بأسره لأنه هو البلد، الحرية له وحده والنقد يصدر من جانبه فحسب ولا يجوز لأحد غيره أن يجرؤ على ممارسته. إنه يمد الحبل السُرِّى إلى جميع أفراد المجتمع فيتنفسون شهيقاً كلما تنفس ولا تعمل خلاياهم إلا بأمره فهو " الزعيم الأوحد" و"القائد و"المُعلِّم" و"الملهَم" الذى يأمر فينصاع الجميع لأمره وهو يعبر عن مصالح الناس وهو أدرى بشئونهم ويعرفها أفضل منهم لأنهم "قُصَّر" لم يبلغوا سن الرشد بعد وأنَّى للقاصر أن يعرف الصواب من الخطأ أو أن يفرق بين الحق والباطل ومن ثم فلا ضَيْر أن كل شئ فى البلاد إنما يتم بتوجيهات سيادته.

فى الليلة التى مات فيها عبد الناصر 28سبتمبر 1970 ذُهل العالم لذلك الذى صنعه العرب على امتداد أقطارهم ولا سيما ما فعله المصريون من بكاء وعويل على نحو هستيرى وعاشت الأمة العربية ومصر بالذات ثلاثة أيام كئيبة ثم كانت الجنازة التى سار فيها ملايين البشر يبكون ويصرخون ويلطمون الخدود.
كل ذلك رغم أن الرجل عرَّض البلاد لهزيمة كاسحة عام 1967 أرجعت البلاد مئات السنين إلى الوراء وأضاع خُمس الأراضى المصرية كما أضاع ما كان بيد العرب من الأراضى الفلسطينية فى الضفة الغربية وغزة حيث التهمتها إسرائيل وكذلك الجولان وتسبب فى مقتل آلاف المصريين ( أكثر من 60ألف قتيل)

لقد كان من الطبيعى عند إعمال العقل أن يفرح المصريون لموت الطاغية الذى احتقرهم وعذبهم وامتهن كرامتهم أو أن يكتفوا بالترحم عليه انصياعا للمشاعر الدينية التى تؤَثِّم الشماتة فى الموت فإذا حتَّم الأمر بعض المبالغة فليكن الدمع قليلاً أما أن تنتشر تلك الحالة العنيفة من " الاكتئاب الجماعى" فإن الأمر يصبح عسيراً على الفهم ولا يمكن تفسيره إلا أن لدينا بعضاً من طبائع العبيد.

يقول البستانى (فى دائرة معارفه) مفرقاً بين المستبد والطاغية:
ربما خَلَطَ البعض بين الطاغية والمستبد من الحكام فالفرق بينهما بيِّن عظيم فالمستبد من تفرد برأيه واستقل به، فقد يكون مصلحاً يريد الخير ويأتيه، أما الطاغية فيستبد مسرفاً فى الظلم وقد يلجأ إلى اتخاذ القوانين والشرائع ستراً يتستر به فيتمكن مما يطمح إليه من الجور والظلم والفتك برعيته وهضم حقوقها، وقد يٌكَيِّف فظائعه بقالب العدل فيكون أشر الطغاة وأشدهم بطشاً بمن تناولتهم سلطته ويشكوا البستانى من أن الناس يمكن أن تتقبل " الطغيان" بدون شكوى أو تذمر وهى الصفة التى يلصقها "أرسطو" بالشرقيين وبمصر خصوصاً حيث يرى أنهم يحملون طبيعة العبيد.

لقد نقل المقريزى عن كعب الأحبار قوله للخليفة عمر بن الخطاب "إن الله عندما خلق الدنيا جعل لكل شئ شيئا فقال الشقاء أنا لاحق بالبادية وقالت الصحة وأنا معك وقالت الشجاعة أنا لاحقة بالشام فقالت الفتنة وأنا معك وقال الخِصْبُ أنا لاحق بمصر فقال الذل وأنا معك.

يقول "جون لوك" فى كتابه "الحكم المدنى":

" يبدأ الطغيان عندما تنتهى سلطة القانون أى عند انتهاك القانون، وإلحاق الأذى بالآخرين"

ويؤكد فقهاء القانون على أن استقرار القوانين الدستورية لم يكن أمراً سهلاً فهى لم تصدر إلا بعد جهاد الشعوب وكفاحها واستشهد الكثيرون من أبناءها لكى تستخلص الشعوب حقوقها من مغتصبها وقد سجل التاريخ أن الدساتير لم تصدر إلا بعد ثورات شعبية أو ضغوط قوية من جانب الشعب على حكامه، فقانون الماجنا كارتا Magna Carta ( العهد الأعظم ) الذى صدر عام 1215 وهو أول وثيقة مدونة فى انجلترا بعد ثورة الأشراف على الملك "جون" والتى على إثرها تم تحديد حقوق الملك الإقطاعية، والثورة الفرنسية الكبرى التى قامت فى فرنسا عام 1789 للمطالبة بحقوق الشعب وتأكيد حرياته واحترامها تمخضت عن (إعلان حقوق الإنسان) الذى أصبح وثيقة عالمية نقلت عنه مختلف الدساتير ومعنى ذلك كله أن البشرية لم تستطع أن تصل إلى الحكم الديمقراطى إلا بعد كفاح مرير.

ثم بعد ذلك يأتى الطغاة من الحكام ليعبثوا بها كيف شاءوا ويحولوها إلى قيود وأغلال على شعوبهم، ولكن الذنب لا يلحقهم فقط بل يلحق الشعوب أيضاً التى تمرر تلك القيود والأغلال دون حتى مجرد صيحة غضب واستنكار.

يقول أحمد مطر فى لافتاته:

الورد فى البستان .. أصبح ...ثم كان .. فى غفلة تهدلت رؤوسه .. وخرت السيقان .. إلى الثرى .. ثم هوت من فوقها التيجان

مرت فراشتان ورددت أحداهما :

قد أعلنت إضرابها الجذور

ما أجبن الإنسان! ما أجبن الإنسان! ما أجبن الإنسان!

ويقول الكواكبى فى كتابه طبائع الاستبداد:

" ما من مستبد سياسى إلا ويتخذ صفة قدسية شارك بها الله أو تعطيه مقاماً ذو علاقة بالله"

وهكذا يقترب الطاغية من التألُّه فهو يُرهب الناس بالتعالى والتعاظم ويذلهم بالقهر والقوة وسلب الأموال حتى لا يجدوا ملجأً إلا التزلف له وتملقه! وبذلك يصبح هو الحاكم، القاهر، الواهب، المانع…. المَهيب الركن…إلى آخر الأسماء الحسنى التى تَسَمَّى بها أحد عتاة الطغاة فى التاريخ المعاصر والذى انتهى به المقام على حبل المشنقة فسبحان القاهر المعز المذل.

ويشرح لنا "أرسطو" أساليب الطغاة فى الاحتفاظ بملكهم فى ثمانية نقاط أطلق عليها اسم "أعمدة الشر" وهى تجيب على السؤال الذى يشغل بالنا فى هذه الأيام وهو لماذا تحول الناس إلى عبيد لغير الله وتتلخص تلك الأساليب الشيطانية فى:

1- تدمير روح المواطنين وزرع الشك وانعدام الثقة فيما بينهم وجعلهم عاجزين عن فعل أى شئ وتعويد الناس الخسة والضِعة والعيش بلا كرامة بحيث يسهل عليهم أن يعتادوا الذل والهوان.

2- القضاء على البارزين من الرجال وأصحاب العقول الناضجة واستئصال كل من تفوق أو حاول أن يرفع رأسه وقد عبر عنها أرسطو بكلمة "التطهير" .

3- منع الموائد المشتركة والاجتماعات والنوادى وحظر التعليم (أو جعله دعاية للحاكم) وحجب كل ما يعمل على تنوير النفوس أو كل ما يبث الشجاعة والثقة بالنفس.
4- منع المواطنين من التجمع لأغراض ثقافية أو أى تجمع مماثل واتخاذ كافة السبل التى تغرس فى المواطن الشعور بأنه غريب عن بلده بقدر المستطاع، ذلك لأن تعارف المواطنين وتوادهم يؤدى إلى استمرار الثقة المتبادلة.

5- إجبار كل مقيم فى المدينة أن يظهر للعيان بصفة مستمرة وإكراهه بوجه عام ألا يجاوز أبداً أبواب المدينة إلا إذا كان الطاغية وأعوانه على علم بما يعمل الناس فى دولته.

6- يجتهد الطاغية حتى تكون لديه معلومات منتظمة حول كل ما يفعل رعاياه أو يقولونه وهذا يعنى أن تكون هناك شرطة سرية وجواسيس أو عيون يبثها فى أرجاء البلاد على نحو ما كان يفعل طاغية "سيراقوصة"

7- إغراء المواطنين أن يشى بعضهم بالبعض الآخر فتنعدم الثقة بينهم ويدب الخلاف بين الصديق وصديقه وبين العوام وعِلْيَة القوم وبين الأغنياء والفقراء.

8- إفقار رعاياه حتى لا يكلف حرسه شيئاً من جهة وحتى ينشغل المواطنون من جهة أخرى بالبحث عن قوت يومهم فلا يجدون من الوقت ما يتمكنون فيه من التآمر عليه وكذلك فر ض الضرائب التى تؤدى إلى نفس النتيجة.

هذا ما قاله أرسطو فى الطاغية فهل ترى اختلافاً كبيراً بين ما يقوله وما يحدث فى بلادنا أو أقطارنا العربية؟؟!!!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق