الأربعاء، 9 أبريل 2008

مَن يهمس في أذن الحاكم؟ ـ م. فتحي شهاب





الإمام العز بن عبد السلام المُلَّقب بـ(سلطان العلماء( حاولتُ أن أجدَ له شبيهًا في عصرنا الحالي أو قريبًا له في الشبه، ولكن محاولتي باءت بالفشل، وكنتُ كمَن يحمل مصباح "ديوجين"، و"ديوجين" هذا عاش في أثينا في القرن الثالث الميلادي، ويُقال إنه ظلَّ طوال حياته يحمل مصباحًا مضيئًا يتجول به نهارًا بحثًا عن (honest man) أي رجل صادق، ولهذا التمستُ لديوجين العذر؛ حيث لم يستطع أن يعثر بين شعبه على هذا الرجل الصادق، كما لم أستطع أنا العثور على عالمٍ مثل العز بن عبد السلام.

لقد كان العز بن عبد السلام يشغل منصب قاضي القضاة بمصر كما كان خطيبًا لأكبر جامع في مصر حينئذٍ؛ وهو جامع عمرو بن العاص، وقد عاش عمرًا مديدًا (83 سنةً)، وشهدت حياته الطويلة جانبًا كبيرًا من أحداث الشرق الإسلامي فشهد جانبًا من الحروب الصليبية وحروب التتار، وكانت له فيها مواقف مشهودة.

فعندما تعرَّضت مصر للحملة الصليبية 1249م، بقيادة لويس التاسع ملك فرنسا واستولوا على دمياط ثم واصلوا سيرهم يريدون القاهرة حتى وصلوا المنصورة دارت المعركة، وانهزم الفرنجة، وتمَّ أسر لويس التاسع وكبار قواده، وتمَّ حبسهم في دار بن لقمان كان العز بن عبد السلام في قلب المعركة يشترك بلسانه ويده؛ حيث كانت حربًا شعبيةً قام الشعب المصري- الذي أتى من شتى أنحاء البلاد- بدورٍ عظيمٍ حتى تحقق النصر.

وعندما تولى قطز سلطنة مصر 1259م، وكان التتار قد اجتاحوا الشرق ودمروا بغداد وأشعلوا فيها النيران، وقضوا على الخلافة العباسية ثم زحفوا على الشام، واستولوا على حلب وعندها أرسل هولاكو قائد التتار رسالته الشهيرة إلى مصر والتي تحمل التهديد والوعيد وما تنخلع لها القلوب، وطالب فيها مصر بالتسليم والإذعان للتتار؛ حينئذ جمع السلطان قطز القضاة والفقهاء لمشاورتهم، فيما يلزم لمواجهة التتار؛ حيث إنَّ بيتَ المال خالٍ من الأموال، وإنه يحتاج لأموال الشعب للجهاد فوافقه الحاضرون على فرض الضرائب وجمع الأموال من الشعب، وهنا صاح العز بن عبد السلام قائلاً: "إذا طرق العدو بلاد الإسلام وجب قتالهم، وجاز لكم أن تأخذوا من الرعية ما تستعينون به على جهادكم بشرط أن لا يبقى في بيتِ المال شيء، وبشرط أن يُؤخذ كل ما لدى السلطان والأمراء من أموالٍ وذهبٍ ويقتصر كل جندي على سلاحه ومركوبه، ويتساووا هم والعامة، وأما أخذ أموال الناس مع بقاء ما في أيدي الجند من المال فلا".

وهنا انتهت الفتوى، وكانت الكلمة في هذا الاجتماع هي كلمة العز بن عبد السلام، وقبل السلطان رأيه ونفَّذ فتواه في دقةٍ وحزم.. وقامت مصرُ بواجبها على خير وجهٍ وكتب الله لها النصر في (عين جالوت) على التتار.

وتذكر كتب التاريخ أنَّ العز بن عبد السلام كان يجوب القرى والمدن يحث الناس على الجهاد، وأمر بأن لا يعتلى أحدٌ المنبر إلا إذا كان حافظًا لسورتَي "التوبة" و"الأنفال"؛ حتى إن الأسواق في مصر كانت تعجُّ بالرجالِ والنساءِ والصبية الذين يرددون "التوبة" و"الأنفال" استعدادًا للجهاد.

كانت طبقة المماليك حينئذٍ هم حكام البلاد وقواد الجيش، فلما كثُرت مظالمهم وزاد طغيانهم ضجَّ الشعب بالشكوى، ولجأ إلى العز بن عبد السلام، ولم يكن أحدٌ يتصور أن يقف موقفًا عدائيًّا صريحًا ضد الطبقة الحاكمة فقد أثار بفتواه قضيةً لا زالت محل دهشة الدنيا بأسرها؛ فقد أفتى بأن المماليك عبيد أرقاء لا يجوز أن يتولوا مناصب الدولة، ولا أن يتصرفوا في أمورهم الخاصة تصرف الأمراء، وأبطل كل ما أبرموه من عقودٍ، فأرسلوا إلى العز يسألونه ماذا يريد بهذه الفتوى؟ فأجاب نعقد لكم مجلسًا على ملأ من الناس، ويُنادَى عليكم في المزاد ونبيعكم ونُودع ثمنكم ببيت المال، ثم يتم عتقكم بعد ذلك بطريقٍ شرعي.

وعندما عنَّفه الملك نجم الدين ولامه على تدخله في أمرٍ يمس رجال الدولة غضب العز واستقال من منصب (قاضي القضاة)، وعزم على تركِ البلاد وحمل أهله وأمتعته على حميرٍ وسار خلفهم فثار الشعب المصري وخرج وراءه خلقٌ كثيرٌ، وخاف السلطان من الثورة، وسمع السلطانُ مَن يهمس في أذنه: متى خرج العز بن عبد السلام من مصر ضاع ملكك، فلحق به السلطان واسترضاه وطلب منه العودة فلم يقبل العز إلا بعد أن وافق السلطان على بيع الأمراء في مزادٍ علني وقد كان...!!

وعندما أصبح (الظاهر بيبرس) سلطانًا لمصر بعد قطز أراد أن يأخذ البيعة لنفسه من العز بن عبد السلام فرفض وقال: يا ركن الدين بيبرس أنا أعرفك عبدًا مملوكًا "للبندقدار"، وأنت لا تصلح للملك حتى يتم بيعك وعتقك بالطريق الشرعي، ولم يبايعه العز حتى قامت البينة الشرعية على عتقه.

وفي آخر أيام حياته بعث إليه الظاهر بيبرس يقول له عيِّن مناصبك لمَن تريد من أولادك فقال: ما فيهم أحدٌ يصلح.. ورُوي أنه كان فيهم مَن يصلح (وهو ابنه الشيخ عبد اللطيف وكان عالمًا جليلاً)، ولكنه كره أن تكون المناصب وراثة.

ولئن كانت الدهشة تعترينا من العز بن عبد السلام وفتاواه فإنَّ الدهشةَ تكون أكبر من حكامِ ذلك الزمان الذين كانوا أكثر روعةً وخشيةً لله وامتثالاً لأوامرِ العلماء.

ولئن وجد حكام ذلك الزمان مَن يهمس في آذانهم ليسمعوا كلام العلماء حتى لا يزول ملكهم فلقد رأينا في زماننا التعيس مَن يهمس في آذانِ الحكام بإعدامهم حتى لا يَفقِد الحكم هيبته، وحتى يستطيع الحفاظ على الكرسى مدى الحياة.. فإذا بالعلماء يُعلَّقون على أعواد المشانق (الشهيد سيد قطب والشهيد عبد القادر عودة)، ووجدنا منهم مَن أُودع السجون مع الكلاب (الشيخ الأودن)، ورأينا كبار الفقهاء يُضرَبون بالأحذية في مجلس الدولة (السنهوري باشا) فإذا بالحاكم يذهب وحكمه يزول وهو في عزِّ الشباب ثم جاء من بعده مَن يُعيد الكَرَّة ويُودع العلماء والمفكرين في السجون، ويقول عن العالم الجليل (الشيخ أحمد المحلاوي) "آهو مرمي في السجن زي الكلب"، والعجيب أن يذهب ملكه بعدها مباشرةً، ثم جاء من بعده مَن حوَّل العلماء والفقهاء إلى أُجراءٍ يلهثون وراء لقمةِ العيش ويطلقون الفتوى الجاهزة حسب طلب الحاكم وتوجيهاته، ورأينا قضاةً وعلماء أجلاء يُسحلون في الشوارع كالدهماء والرعاعِ دون أدنى مراعاةٍ لعلمهم وفضلهم ومكانتهم.

ولا يبدو في الأفق حتى الآن أنَّ أحدًا من العقلاء يريد أن يهمس في أذن الحاكم محذرًا من زوال ملكه، بل يبدو أنَّ النصيحةَ هي "الضرب في المليان"، والإيداع في السجون والمعتقلات.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق