الثلاثاء، 19 يناير 2010

حرب المصطلحات والخداع الأمريكي ـ بقلم : م. فتحي شهاب


الحديث هنا ليس عن الحرب المكشوفة والتي يعقبها تدمير واحتلال كما حدث في أفغانستان والعراق وفلسطين , ولكنه نوع من الحرب الذكية أو الناعمة (Soft Power) تبدأ بمُدخلات ثقافية وفكرية وتكمن ورائها منظمات عابرة للقارات جاهزة للانقضاض لفرض تلك الشعارات في أرجاء العالم وخاصة عالمنا العربي والإسلامي .
فـ ( الديمقراطية ) و ( حقوق الإنسان ) و ( حقوق الطفل ) و ( حقوق المرأة ) و ( الشرق الأوسط ) و ( الفوضى الخلاقة ) مصطلحات قام بصكها وسبكها أكاديميون متخصصون وصُنَّاع سياسة محترفون حتى أصبحت حرفة أمريكية خالصة لا يستطيع أحد الدخول إلى حلبة المنافسة فيها ثم تحولت إلى صناعة تطرح منها في سوق السياسة ما تريده بين الحين والآخر .
إن مصطلح ( حقوق الإنسان ) من أهم المصطلحات التي كشفت الزيف والخداع الأمريكي بعد أن تدهورت هذه القيمة ـ حقوق الإنسان ـ وانتُهِكتْ في الغرب نفسه وفي عقر الدار الأمريكية , فالتقارير الرسمية الغربية الصادرة عن حجم الأطفال المصنفين بدون آباء (Single Parents) يشكلون نسبة 50% من المواليد , وهذا يعني أن الغرب من أكبر منتهكي حقوق الأطفال وكذلك حقوق المرأة التي من أبسطها تحميل الأم وحدها ـ بحكم هذا الواقع ـ تبعات تلك الطفولة المحرومة من الأبوة , كما أن هذه النسبة تؤكد الانتهاك لكل مفاهيم حقوق الإنسان وكرامته لكن الغرب يستثني نفسه لأنه هو المنتج والمصدِّر لتلك المصطلحات .
فأمريكا تقوم باستغلال التنوع العرقي والديني في الدول المستهدفة تحت مسمى ( حقوق الإنسان ) لإضعاف الثقافة الرئيسية للدول وانتهاك سيادتها الوطنية واستغلال أحداث تافهة أحيانًا لإشعال الحروب الإعلامية والسياسية وأحيانًا العسكرية , فالإثنية ( شيعة وسنة ) ـ ( عرب وعجم ) ـ ( عرب وأمازيج ) ...... ومع وجود أكثر من ثلاثة آلاف مجموعة إثنية حول العالم سوف يمهد بشكل إنتقائي لمبررات دائمة بحجة حماية حقوق الإنسان .
إن مصطلحات مثل ( حقوق الطفل ) تحتاج إلى تعريف وتحرير فالطرح الإعلامي الغربي يهدف إلى تربية الطفل على الليبرالية الفردية المبكرة , كما أنه ينزع قوامة الوالدين ودورهما التربوي , كما أن مصطلح ( حقوق المرأة ) يؤكِّد على حقيقة حرب المصطلحات حينما يجري غض الطرف عما تعانيه المرأة في معظم القارة الأفريقية من انتهاك لحقوق الملايين منهن في ميادين كثيرة بينما يسود الصمت وقلب الحقائق إزاء انتهاك حقوق المرأة الغربية والأمريكية وخاصة في الجوانب التي تتعلق بالكرامة والإنسانية وانتهاك الحقوق الأخلاقية والوظيفية والمتاجرة بصورها وجسدها كرقيق أبيض , وليس أدل على ذلك من أن عدد معتقني الإسلام من النساء في أوربا وأمريكا بشكل خاص يشكل ثلاثة أضعاف عدد معتنقيه من الرجال حيث تبحث المرأة عن حقوقها وكرامتها فلا تجدها كاملة إلا في الإسلام .
خذ أيضًا على سبيل المثال مصطلح ( الشرق الأوسط ) الذي تم تقديمه منذ حرب الخليج الثانية 1991م والاتفاق بشأنه في وزارة الخارجية الأمريكية أن يكون بديلاً عن تعبيري ( العالم العربي ) و (العالم الإسلامي ) اللذان تم شطبهما من قاموس الدبلوماسية الأمريكية .
ولعل من أخطر وأهم المصطلحات التي ظهرت في هذا القرن هو مصطلح ( الفوضى الخلاقة ) حيث يمثل أحد أهم الأسلحة التي انتجها العقل الاستراتيجي الأمريكي في التعامل مع قضايا العالم العربي , فقد تمت صياغة هذا المصطلح بعناية فائقة من قِبَل صُنَّاع السياسة الأمريكية والتي عبَّرت عنه "كونداليزا رايس" وزيرة الخارجية الأمريكية في أبريل 2005م عندما صرَّحت لصحيفة "الواشنطن بوست" بأن مبدا "الفوضى الخلاقة" يتم تطبيقه بحذافيره في حرب أمريكا على الإرهاب , وإذا كانت المرحلة الأولى من هذه الاستراتيجية جرت تحت شعار "الحرب على الإرهاب" واستهدفت إسقاط نظامي طالبان في افغانستان والبعث في العراق , فإن المرحلة الثانية تجري تحت شعار "الحرب على الاستبداد ونشر اليمقراطية" وتستهدف إسقاط نظامي سوريا وإيران ونزع سلاح المقاومة وتفكيك بنيتها التحتية في كل من لبنان وفلسطين , والفرق الوحيد بين المرحلتين أن الأولى تطلبت استخدامًا مكثَّف للقوة العسكرية واحتلالاً فعليًا للدول المستهدفة , بينما الثانية تعتمد على سياسة القصف التمهيدي بالمصطلحات دون استبعاد التدخل العسكري إذا لزم الأمر .
لقد ظهرت نتائج الفوضى الخلاقة سريعًا في عالمنا العربي والإسلامي حيث يتم تهييج الأقباط في مصر والأمازيج في المغرب والشيعة في اليمن وإمدادهم بالسلاح حتى يعُمَّ الهرج والمرج وتصل إلى مرحلة الفوضى الهدَّامة ( اقصد الخلاَّقة ) .
ولقد رأينا بأم أعيننا نماذج للفوضى الخلاقة متمثلة في الثورات الملوَّنة بألوان الطيف في صربيا وجورجيا وأوكرانيا ؛ حيث بدا القصف بمصطلحات الديمقراطية وحقوق الإنسان عن طريق قطاعات من المجتمع المدني مطالِبة بالتغيير ودعم عملهم بتعبئة أجهزة الإعلام المحلية والدولية لصالحهم واختراع بطل يُوحِّد الاحتجاج ثم الضغط الدولي على السلطات القائمة لتنبع بعد ذلك الثورات البرتقالية والحمراء والزرقاء .. إلخ .
إن تحرير المصطلحات من مواطن اللبس والغموض والتآمر فيها هو واجب شرعي ومطلب وطني , وهذا يتطلب وجود مؤسسات بحثية (Think Tanks) وإعلامية متخصصة ومستقلة ومنظمات مجتمع مدني "مؤثرة" وليست "متأثرة" على غرار تلك المؤسسات الغربية التي تعمل كجنود مشاة مهمتها إعادة تعريف وصياغة المفاهيم والخطاب الغربي وإيصالهما مع الوعيد والتهديد إلينا .
إن المشكلة تكمن في "قابلية الهزيمة" والانكسار أمام تلك المصطلحات الحديثة الغامضة التي تحتكر الدول المصدِّرة لها حق تفسيرها للآخرين .
إننا في عالمنا الإسلامي نتمتع بتراث ضخم يستمد جذوره من الشريعة الإسلامية التي تُؤصِّل للحقوق والواجبات التي هي مدار تلك المصطلحات سواء للطفل أو للمرأة أو الأسرة أو الإنسان الحاكم أو المحكوم فَلِمَ لا نبدأ الآن ؟ , لقد صدق المفكِّر الإسلامي "مراد هدفمان" عندما قال : "إن الإسلام يملك الإجابات الصحيحة لأسئلة الغرب الكثيرة وأزماته المتعددة والإسلام ليس طالب إحسان من الغرب ولكنه مانح رئيسي لكثير من القيم وأساليب الحياة" .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق